"لن يرضى أحد تماما عن إقتراحنا، ولكن هذه هي الطريقة التي يجب أن تكون إذا كان يراد تحقيق سلام حقيقي، فالسلام لا يمكن أن ينجح إلا إذا إستند لحقائق".. هذه الكلمات للمبعوث الأمريكي للسلام في المنطقة جيسون غرينبلات، وانا هنا اتفق معه واختلف في تحديد بعض المفاهيم.
اتفق معه أن أي خطة للسلام لن ترضى الطرفين الرئيسيين في عملية السلام وهما الفلسطينيون والإسرائيليون، لأننا هنا نتعامل مع عملية سلام معقدة، ومركبة تعكس ماهية السلام المطلوب لصراع معقد ومركب ومكوناته كثيرة. أتفق معه أن السلام يستند على حقائق، لكن أي حقائق، وهنا الإختلاف. أتفق معه تماماً اننا نريد سلاما حقيقيا يخاطب مكونات السلام ، ولا يخاطب مطالب القوة وفرض الأمر الواقع.
أولا نحن في حاجة لتحديد الحقائق التي تحدث عنها ، ونتفق عليها وإذا إتفقنا عليها تكون البداية فعلا للسلام الحقيقي ، وقبل ذلك لا بد ان نتفق على مفهوم السلام الحقيقي.
ما المقصود بالسلام الحقيقي ؟ وهنا اجتهد بعيدا عن أي تحيز او تعصب أيدولوجي ، لأنني أسعى لهذا السلام ، ومن أشد المدافعين عنه، فانا مع السلام ولست مع الصراخ والحرب، ومع التعايش المشترك وضد التنافر والصراع بين الفلسطينيين والإسرائيلييين، والبحث عن صيغ للتكامل والمشاريع المشتركة التي تفرضها الأرض أو الجغرافيا الواحدة، وهذه أول حقيقة ثابتة ينبغي أن يقوم عليها السلام الحقيقي.
أعود لتحديد ماهية السلام الحقيقي . هناك فارق بين السلام الحقيقي وسلام الحقائق، السلام الحقيقي هو السلام الذي يتعامل مع السلام من منظور تحقيق العدالة المطلوبة ومقبولة في أي تسوية، هو السلام الذي يخاطب بشكل مباشر أسباب الصراع ، ويقدم الحلول لمعالجتها وحلها، وهو السلام الذي يستند على الشرعية الدولية والمواثيق الدولية والإنسانية، من منطلق فرضية اساسية طالما أن الهدف الرئيس لميثاق الأمم المتحدة هو تحقيق السلام العالمي يفترض ان أي سلام حقيقي يستند على جوهر الأهداف والمبادئ التي تقوم عليها الأمم المتحدة والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، ولا يجوز لأي مبادرة للسلام أن تقوم على إلغاء هذه الشرعية الدولية وما صدر عن الأمم المتحدة من قرارات ، وأن تكون نقيضا للمواثيق الدولية.
وهناك من يرى ان إلصاق صفة العدل على السلام ضرورية خصوصا أن السلام والعدل وجهان لعملة واحدة، ولكن هناك من يرى أنه من الصعوبة بمكان الحديث عن العدالة المطلقة في اي تسوية سياسية، وان العدل نسبيا، وكل إتفاقات السلام بل ومعظمها تخاطب الواقع القائم، ولا تعبر عن العدل كإتفاقات باريس عام 1919، وحتى إتفاقات أوسلو وهذا سبب فشلها أنها إتفاقات غير عادلة وعكست موازين القوى القائمة والتي تعمل لصالح إسرائيل، ولذلك غلبت الإعتبارات والحاجات الأمنية لإسرائيل على إعتبارات الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وهذه المعادلة غير المتكافئة التي حولتها لإتفاقية أمن بدلا من إتفاقية تسوية سياسية تفضي لإتفاق سلام. وفريق ثالث يربط بين السلام وأي تسوية سياسية بمعادلة الحقوق ، والحقوق السياسية والإنسانية ، وفي رأيهم أن السلام بمراحله الأربعة إقرار السلام وصنع السلام وحفظ السلام وبناء السلام يتضمن في المراحل الأربع مسألة الحقوق المنقوصة لكل طرف وما هي الحقوق الغائبة بسبب الصراع ، وهدف السلام هنا إستعادة هذه الحقوق.
أما سلام الحقائق الذي تضمنته صفقة القرن المنتظرة وما تحدث عنه المبعوث الأمريكي جرينبلات فيعني التسليم بما هو قائم، والتسليم به كحقيقة وحق قائم، مثال ذلك التسليم بأن ليس للفلسطينيين حقوق في القدس وان حقوقهم مجرد حقوق للعبادة، وانها خارج التفاوض .
والأمر ينطبق على القضايا الأخرى كاللاجئين الذي عمل قانون القومية اليهودية الأخير على شطبها.
السلام الحقيقي يقوم على الحقائق وهذا صحيح، هذه الحقائق الإعتراف بأن الفلسطينيين شعب له حقوقه المشروعة ،والتي أقرتها الشرعية الدولية والتي لا يمكن إلغاءها، وهذا الشعب كالشعب الإسرائيلي تماما، وثانيا الإعتراف بأن هناك إحتلال إسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ولا بد الإعلان الصريح على إنهائه، وثالثا الإعتراف بأن المستوطنات المقامة على أراضي الدولة الفلسطينية التي إعترفت بها الأمم المتحدة كدولة مراقب غير شرعية وتتناقض وقرارات الشرعية الدولية التي صدرت بشأنها قرارات كثيرة حتى الإدارات الأمريكية السابقة لم تعترف بشرعيتها، ورابعا الإعلان الصريح بحق الفلسطينيين بقيام دولتهم وان إسرائيل كدولة وأمن وبقاء لا يكتمل إلا بقيام هذه الدولة، والإلتزام بكل الإتفاقات الموقعة بين الطرفين ومسؤولية إسرائيل كدولة إحتلال، ومن ثم التفكير بعد ذلك كيف نحول السلام من مراحله الثلاث الأولى إلى مرحلة بناء السلام .
وهنا يأتي دور التعليم ونشر قيم السلام ونبذ الكراهية والأيدولوجيات المتعصبة، والتفكير في المشاريع المشتركة، والبحث عن صيغ للتعايش المشترك من منطلق وحدانية الأرض التي تقوم عليها الدولتان الفلسطينية والإسرائيلية، وأنه لا بديل عن السلام بينهما, الخطوة الأولى في استعادة معادلة الحقوق، وعدم التعامل مع القضية والصراع من منظور الحقوق والإحتياجات الإنسانية فقط على أهميتها بل السلام الحقيقي هو الذي يخاطب أسباب الصراع ويعمل على إستئصالها وإستبدالها بالسلام بما يعنيه من حياة مشتركة تقوم على الحقوق والإعتراف المتبادل بينها.
توجد أمثلة وتجارب صغيرة لو وظفت لكنا الآن في مرحلة بناء السلام. ويبقى السلام الحقيقي سياسياً إنسانياً مرجعيته الشرعية الدولية ومنظومة الحقوق، وسلام الحقائق سلام القوة والواقعية ومرجعيته شرعية القوة ، وشتان بين شرعية القوة وقوة الشرعية، والمطلوب في صفقة القرن إيجاد حل لهذه المعادلة.
بقلم/ د. ناجي شراب