يشكّل إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن ذروة الحرب التي تشنها الإدارة الأميركية ضد الشعب الفلسطيني، وحقوقه، وأرضه، ومؤسساته، وقيادته، وقواه الحية. وفي ظل تكاثر المؤشرات والأنباء عن مواصلة هذه الحرب من خلال: أولًا، الشروع في التعامل عمليًا مع المنظمة كمنظمة "إرهابية" بالعودة إلى مرحلة العداء الأميركي للمنظمة، والإعداد لخطة لشطبها وسحب الاعترافات الدولية بها، والتعامل مع السلطة بدلًا عنها، وثانيًا، بدء الضغط على الدول التي يعيش فيها اللاجئون لتوطينهم فيها، أو تهجيرهم إلى منافي جديد؛ لا بد من الوقوف، والبحث في كيفية إحباط هذه الحرب.
ما تقوم به إسرائيل على الأرض أشد خطورة، فهناك تسارع محموم لاستكمال تهويد الضفة الغربية وأسرلتها، وخاصة القدس ومناطق (ج)، أعطاه دفعة كبرى إقرار "قانون القومية"، الذي جعل العنصرية دستورًا لإسرائيل، ما يؤسس لهجمة استعمارية استيطانية كبيرة غير مسبوقة، ويفتح أبواب موجة جديدة من التهجير.
هل جاء الرد الفلسطيني شاملًا بمستوى خطورة الهجمة الأميركية الإسرائيلية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها وإقامة "إسرائيل الكبرى"، أم يشوبه الارتباك والتشويش والعجز، والاكتفاء بردود الأفعال، وانتظار أن يأتي الفرج من السماء أو من باطن الأرض أو من مكان مجهول، وهو انتظار قاتل، فالوقت من دم والتاريخ لا يرحم؟
ما يميز ردود الأفعال الفلسطينية أنها تدّل على أن القيادة وحركتي فتح وحماس ومختلف القوى وغيرهم لا يعرفون بالضبط ماذا يريدون، وكيف يحققون ما يريدونه، أو يعرفون ما يريدون لكنهم غير قادرين على تحقيقه، لأنهم لا يملكون الأدوات القادرة على ذلك.
ومع التفاوت في ردود الأفعال، سواء الرسمية التي صدرت عن القيادة وطرفي الانقسام، أو الردود الشعبية والقوى الأخرى، إلا أنها لم ترتق إلى مستوى التحديات والمخاطر، ولم تكن رادعة، وكانت تتعامل كل يوم بيومه دون استشراف للمستقبل والتخطيط لمواجهة الخطر الراهن والأخطار القادمة والمحتملة، لدرجة دفعت نيكي هيلي، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، للحديث بعد قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وردود الفعل الضعيفة عليه بأن السماء لم تطبق على الأرض. صحيح أن ردود الفعل كانت أكبر مما توقعته الإدارة الأميركية، ولكنها أقل من الممكن والمطلوب بكثير.
لماذا جاءت ردود الفعل ضعيفة وغير قادرة على إحباط أو حتى ردع صفقة ترامب-المؤامرة، أو وقف الهجمة الاستيطانية العنصرية وغيرهما من الإجراءات العدائية الأميركية والإسرائيلية المتواصلة؟
لا يمكن عزل ذلك عن نتائج مسيرة كاملة للحركة الفلسطينية بمختلف ألوانها، إذ تقادمت وترهلت وتآكلت شرعيتها ومؤسساتها، بحيث لم تشهد التغيير والتجديد والإصلاح المطلوب إحداثه باستمرار.
وفاقم من هذا الأمر بشكل نوعي توقيع اتفاق أوسلو المستمر حتى الآن رغم نتائجه الكارثية، الذي فصل القضية عن الأرض والشعب وقسم كل منها إلى أجزاء، ما أدى إلى تضخم السلطة وتقزيم المنظمة مع أنها ولدت من رحمها، وكانت مثل البنت التي أكلت أمها، وما يعنيه ذلك من القفز عن طبيعة الصراع بوصفه بين استعمار استيطاني عنصري وبين شعب تحت الاحتلال، وما انتهى إليه كل ذلك إلى عدم وضوح ما هو المشروع الوطني، وكيف يمكن تجسيده، وإلى حكم ذاتي كان في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، وأعاد إنتاج نفسه بعد الانقلاب/الحسم ليصبح سلطتين بلا سلطة حقيقية تتنازعان تحت الاحتلال على الثروة والنفوذ والمناصب والتمثيل تحت سقف أوسلو.
تشير الكثير من المعطيات - رغم كل مظاهر الصمود والتضحية والمقاومة – إلى أننا نسير نحو نكبة ثالثة تتمثل في إقامة "إسرائيل الكبرى"، بعد نكبتي 48 و67، وستكون إذا وقعت أخطر من سابقاتها. وهي ستتحقق من خلال ضم الضفة الغربية مع إبقاء المعازل الآهلة بالسكان والمنفصلة عن بعضها البعض مؤقتًا ضمن صيغة حكم ذاتي مركزه في قطاع غزة، أو يقوم من خلال السلطات المنتشرة في كل مدينة وما حولها، تطبيقًا لخطة "الإمارات" التي طرحها الباحث الصهيوني موشيه كيدار، وجاهزة للتنفيذ إذا انهارت السلطة أو إذا حلت نفسها.
إذا لم يستيقظ الفلسطينيون سنصل بعد عقد أو عقدين من الزمن، إذا استمرت نفس المعطيات تفعل فعلها، ومع استمرار أطماع الحركة الصهيونية، إلى نكبة ثالثة، وما يرافقها من تشريد وتهجير جديد للفلسطينيين وإحلال اليهود بدلًا منهم.
على الفلسطينيين إدراك ذلك، والعمل على إحباطه قبل وقوع الفأس بالرأس، من خلال وقوع هجرة جديدة إلى الأردن وسيناء وغيرهما من المخططات التي تنتظر التطبيق. فلن تفوّت الحركة الصهيونية طائعة فرصة استكمال تحقيق أهدافها إذا استمر الفلسطينيون في حالة التيه والانقسام والشرذمة.
هل الوضع ميؤوس منه ولا يمكن عمل شيء، وعلينا انتظار استنفاد الحركة الفلسطينية لطاقاتها، ووقوع النكبة الثالثة حتى نشهد بعد ذلك نهضة جديدة للشعب الفلسطيني شبيهة بالنهوض الذي حدث في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أم أن هذا سيساعد على تحقيقها بشكل أسرع وأعمق، ولن يساعد على قيام النهوض الجديد، إذ لا بد من عمل كل شيء ممكن لمنع وقوع النكبة، وهذا ليس مستحيلًا، أو تأخيرها قدر الإمكان وتدفيع الأعداء ثمنًا باهظًا؟
كل كلمة أو بيان أو مقال أو ندوة أو مؤتمر أو مظاهرة أو اعتصام، أو عمل كفاحي سياسي أو اقتصادي أو قانوني مقاوم، أو عمل فني أو ثقافي؛ يصبّ في سياق الدفاع عن القضية والشعب والأرض مهم مهما كان صغيرًا، ولا يجب التقليل من شأنه، لأن هذا كله ينثر البذور القادرة على إحداث النهوض القادم. أما الخنوع والاستسلام لهذا الواقع وعدم فعل شيء، بحجة أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، أو أن المؤامرة أكبر منا، وأن قياداتنا وقوانا وسلطتينا أصبحوا عبئًا على الشعب والقضية، فهذا يعبّد الطريق للهزيمة، وتكون حينها أكبر.
كل نشاط مهما كان صغيرًا علامة على الطريق الذي سيوصل في النهاية إلى الانتصار، لأن الشعب الفلسطيني جذوره عميقة في أرضه، وأثبت طوال القرن الماضي أنه يريد أن يأخذ مكانه على هذه الأرض، وأنه يستحق الحياة وجدير بها، ولكنه لم يحصل على القيادة التي يستحقها لعوامل كثيرة، منها ما هو ذاتي، وهذا أمر أساسي، ومنها ما يتعلق بقوة العدو وحلفائه، وأهمية القضية الفلسطينية وموقعها، فضلًا عن التدخلات والتأثيرات الخارجية الكبيرة والمتعددة.
إن أهمية الكفاح الفلسطيني المتواصل لا تلغي أن مواجهة الوضع البائس الذي نعيشه لن تكون ناجعة باعتماد نفس السياسات والأدوات والخطط القديمة، ولا من نفس الأشخاص الذين أوصلونا إلى ما نحن فيه.
كما لا يمكن أن تستمر حركتا فتح وحماس بشيطنة بعضهما، وتبادل الاتهامات، وتحميل كل منهما المسؤولية للأخرى، وسعي واحدة منهما لعمل كل ما تستطيعه لعقد هدنة انفرادية مع الاحتلال بذريعة أنه أهون الشرور، بينما تسعى الأخرى لعمل كل ما تستطيعه لمنع هذه الهدنة، بذريعة أنها تمس وحدانية القيادة والتمثيل والقرار. وهذا يعني الاستمرار في دوامة الانقسام الجهنمية، وتعبيد الطريق لنجاح صفقة ترامب مع أنها تستهدف الفلسطينيين جميعًا.
يكمن المخرج في تحشيد كل الفلسطينيين الغيورين على قضيتهم وحقوقهم وأرضهم ومقدساتهم في "جبهة إنقاذ وطني" مفتوحة أمام كل من يريد إسقاط المؤامرات التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، ومن يؤمن بالشراكة والتعددية بعيدًا عن التفرد والهيمنة والإقصاء والتكفير والتخوين واحتكار الحقيقية والدين والوطنية.
ليس المطلوب تشكبل جبهة معارضة ولا جبهة يسارية أو أيديولوجية، وإنما جبهة واسعة عابرة للتجمعات والفصائل الفلسطينية، يكون هدفها العام إحياء الوطنية الفلسطينية عبر إنقاذ القضية، وهدفها المباشر وقف التدهور ومنع وقوع النكبة، وما يتطلبه ذلك من توفير عوامل صمود شعبنا وتواجده على أرض فلسطين، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة في سياق إعادة بناء الحركة الوطنية ومؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي على أسس تعددية جبهوية تشاركية، وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني، وتركز الآن على إسقاط "صفقة ترامب" و"قانون القومية" والمشاريع الاستيطانية الاستعمارية في الضفة ورفع الحصار عن قطاع غزة، ومنع تصفية قضية اللاجئين وتوطينهم في أماكن تواجدهم، أو تهجيرهم إلى بلدان جديدة.
الحريق داخل البيت، والملح إطفاؤه قبل أن يلتهم كل شيء.
بقلم/ هاني المصري