على عكس ما ذهب إليه البعض من أنّ الاتفاق الذي أنجز بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب أردوغان يشكل تراجعاً روسياً أمام تركيا، لكونه حقق لأردوغان مطلبه بوقف العملية العسكرية لتجنيب حدوث نزوح سكاني جديد من إدلب إلى تركيا حسب ما يدّعي، إلا أنّ الاتفاق أعطى فرصة محدّدة زمنياً لفصل الجماعات المسلحة التي يزعم أنها معتدلة عن التنظيمات المسلحة المصنفة إرهابية، وفي طليعتها جبهة النصرة وحراس الدين وغيرهما من تنظيمات القاعدة، وألزم تركيا العمل على إخلاء المنطقة المنزوعة السلاح من التنظيمات الإرهابية المذكورة ونزع السلاح الثقيل من هذه المنطقة بعمق يصل من 15 إلى 20 كلم على طول خط الجبهة بين الجيش السوري والجماعات المسلحة، على أن ينجز ذلك في مدة أقصاها الخامس عشر من الشهر المقبل، ويكون مقدمة لمرحلة لاحقة تؤدي إلى عودة مؤسسات الدولة السورية إلى إدلب وتحقيق التسوية السياسية على قواعد احترام سيادة واستقلال ووحدة سورية وعودة سيطرة الدولة السورية على كامل أراضيها وتطهيرها من الإرهاب والحفاظ على حياة وأرواح المدنيين حسبما تمّ الاتفاق في القمة الثلاثية في طهران.
لهذا فإنّ الاتفاق من الزاوية الشكلية حقق لأردوغان بعض مطالبه، لكنه في المضمون فإنه يرسم طريق تحرير ما تبقى من محافظة إدلب وعودة سيطرة الدولة السورية إليها على غرار ما حصل في حلب إثر الاتفاق بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي جون كيري، والذي لم ينفذ نتيجة رفض الجماعات الإرهابية له، فكانت العملية العسكرية التي انتهت بتحرير الأحياء الشرقية والقديمة من حلب ووضع نهاية لوجود الإرهابيين فيها…
فالاتفاق يضع تركيا أردوغان أمام استحقاق العمل على إخراج جبهة النصرة وحراس الدين، القوة الأساسية في إدلب، بداية من المنطقة المنزوعة السلاح وبعد ذلك خارج سورية إلى تركيا… فهل سيتمكن أردوغان من إقناع هذه التنظيمات الإرهابية بما له من نفوذ وتأثير عليها بالتجاوب معه في تنفيذ الاتفاق؟ أم سيفشل كما فشل الأميركي في حلب؟ وبالتالي نكون أمام سيناريو العملية العسكرية باعتبارها الخيار الوحيد المتبقي للقضاء على هذه التنظيمات وتطهير إدلب من وجودها، لكن هذه المرة ستكون تركيا ملزمة بالتعاون وتغطية هذه العملية العسكرية بعدما أعطيت الفرصة لتجريب خيار حلّ الأزمة سلمياً، خصوصاً أنّ الاتفاق تمّ توثيقه في سوتشي بكلّ تفاصيله بحيث لا يكون هناك مجال لأيّ تأويل أو تهرّب من قبل أردوغان…
لذلك في الحالتين، حالة نجاح تركيا في تنفيذ الاتفاق سلماً، أو في حالة فشلها في ذلك واللجوء إلى العملية العسكرية الجراحية، فإنّ عملية تحرير إدلب بدأت من لحظة توقيع الاتفاق الذي تضمّن جدولاً زمنياً للتنفيذ…
من هنا فإنّ الاتفاق شكل ضربة موجعة للخطط الأميركية الغربية التي كانت تحضر لمسرحية الكيماوي، لحظة البدء بالهجوم العسكري ضدّ الجماعات الإرهابية، عبر اتهام سورية باستخدام المواد السامة لتبرير شنّ عدوان واسع على سورية، عدا عن احتمال تراصف تركيا مع هذا العدوان إلى جانب تحريك قوات الحماية الكردية بدعم أميركي لحسم السيطرة على محافظة الحسكة وشرق الفرات… فالاتفاق قطع الطريق على هذا السيناريو الأميركي الغربي وأعاد وضع تركيا في تعارض وخلاف مع أميركا التي تدعم الأكراد في شمال سورية لإقامة منطقة حكم ذاتي تعتبرها أنقرة خطراً يهدّد وحدة تركيا واستقرارها، وفي نفس الوقت وجّه الاتفاق رسالة تحذيرية لقوات الحماية الكردية من مغبّة الذهاب بعيداً في الرهان على الدعم الأميركي والسير في تنفيذ مخططات واشنطن لابتزاز الدولة الوطنية السورية بتنازلات تمسّ وحدتها أرضاً وشعباً…
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول إنّ الاتفاق التركي الروسي الذي تمّ بالتشاور والتنسيق بين موسكو وكلّ من دمشق وطهران وحظي بمباركتهما رسم خريطة تحرير إدلب من الإرهاب واستعادتها إلى كنف الدولة السورية، وقطع الطريق على الكمين الأميركي الغربي المحضّر لتعطيل الهجوم العسكري للقضاء على الإرهابيين، وأوكل مهمة التخلص من النصرة وأخواتها إلى تركيا التي تتأرجح في مواقفها بين المعسكر الأميركي الغربي من ناحية، والمعسكر الروسي الإيراني من ناحية ثانية، فهي تميل إلى هذا المعسكر أو ذاك بناء على مصالحها وحسابات البراغماتية، مع الأخذ بالاعتبار أنّ مصلحة تركيا في هذه المرحلة تكمن في الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع موسكو وطهران وتطويرها وتعزيزها، لا سيما بعد الحرب الاقتصادية التي يشنّها ترامب على تركيا وأدّت إلى إلحاق الأذى الكبير بالاقتصاد التركي وانهيار كبير في سعر الليرة التركية…
غير أنّ هذا المسار الذي تتجه إليه الأمور في إدلب والذي يشبه إلى حدّ ما المشهد عشية تحرير مدينة حلب، ما كان ليحصل لولا ميزان القوى الميداني والعسكري المختلّ في مصلحة محور المقاومة والحليف الروسي، والذي تحقق بعد تحرير القسم الأكبر من الأراضي السورية، التي كانت خاضعة لسيطرة الإرهابيين… هذا الاختلال في ميزان القوى إلى جانب الحضور العسكري النوعي الروسي هو الذي لجم العدوانية الأميركية وأحبط مخططات واشنطن، وهو الذي روّض الرئيس التركي أردوغان وأجبره على السير في ذات الطريق الذي سلكه الأميركي عشية معركة تحرير حلب وبعد ذلك في البادية ودير الزور والحدود السورية العراقية، ولدى بدء عملية تحرير جنوب سورية، وبالتالي دفعه إلى التكيّف مع ميزان القوى المذكور الذي أسقط أحلام أردوغان باستعادة الأمجاد الغابرة للسلطنة العثمانية، بدءاً بتحرير حلب، وهو الذي ألزمه بالاتفاق مع بوتين والذي رسم مسار تحرير إدلب من الإرهابيين… ويبقى الرهان أوّلاً وأخيراً على ميزان القوى الميداني والعسكري من ناحية، وتصميم وإصرار القيادة السورية برئاسة الرئيس بشار الأسد على استعادة كلّ شبر من الأرض السورية خارجة عن سيطرة الدولة، ورفض ايّ مساومة على الاستقلال الوطني… هذا التصميم والإصرار شكّل على مدى سنوات الحرب علامة بارزة ميّزت مواقف الرئيس الأسد الذي جسّد قولاً وفعلاً نموذج القائد العربي المقاوم الصلب والشجاع والجريء في مواجهة قوى الاستعمار الغربي والاحتلال الصهيوني والرجعية العربية وأدواتهم الإرهابية… وإلى كلّ الذين يبدون التخوّف على سورية من مناورات أردوغان وخداعه، أن يدركوا أنّ سورية الأسد أثبتت أنها متنبّهة لكلّ خطوة، وعليهم ان يدركوا انّ سورية وحليفيها الروسي والإيراني يديرون معركة كونية سيتقرّر فيها مستقبل العالم والمنطقة، وترسم معادلات دولية وإقليمية جديدة على أنقاض الهيمنة الأحادية الأميركية الغربية، بدأت مؤشراتها ومعالمها بالظهور بفعل انتصارات محور المقاومة ودعم الحليف الروسي، وانْ حاولت واشنطن معاندة هذه الحقيقة إلى حين…
بقلم/ حسن حردان