حماس التي ولدت وفي رحمها أزمات ثلاث وسارت بخطايا ثلاث وتحصد ثلاث لم تسمن ولم تغني من جوع
فمـا الذي بقي منها وما الذي بقي لهـا
ولدت وفي رحمها أزمــات ثلاث :
مـنـذ البـدايـة وفي خضـم البحـث الإقليمـي والـدولـي عـن الـبدائـل لمنظمـة التحـريـر الفلسـطينيـة ولـدت حركة المقاومة الإسلامية (حمـاس ) ونظـراً لتسـارع الأحـداث في أواخـر الثمانينـات مـع تـداعيـات الانتفاضـة وحـرب الخليـج الأولى والحاجـة لسـرعـة الاسـتيـلاد فقـد ولـدت وفي أحشائهـا أزمـات ثـلاث ... يكمـن في كـل منهـا من التعارضـات مـا يكفي لترتفع إلى تناقضـات تطـرد وتـُشـتـّتْ إن لـم تـُفجـّرْ ذاتهـا فهي :
أولاً : وفقاً لطبيعة التواصل الجغرافي والسياسي الذي كان قبل 1967 واسـتمر بعـدهـا فقد ولدت حماس فرعـاً مـُهجـّنـاً مـن الإخوان المسلمين في كـل مـن مصر والأردن أساساً مـع كل مـا يتركه الولاء السياسي من المفارقـات والمواقـف وتجعـل وحـدة هـذا الفرع في مهـب الـريح عـند أول أزمة حقيقية بين مصادر الولاء في عـمـّـان والقـاهـرة ، ولعـل الأزمـة الحالية للإخـوان في كل من مصر والأردن مثالاً مهما كانت المسميات التي تتخفى تحتها من تفاسير للأنظمة واللوائح وفتاوي وتأويلات كل منها ... ولأن أبسـط النـاس في مصر والأردن يعلـم أن السـبب الحقيقي مرتبـط بالولاء السياسي للفرد وللجغرافيـاً .
ثانياً : الاختيـار الطوعي لمبـدأ البـديـل والنفي والإقصـاء لكـل ما هو مـوجود في قضية تخص خصوصـاً شـعـب نسـيجه يجمع من التعـددية في كل شـيء تعدداً يساوي عدد أماكن الانتشار والشتات الفلسـطيني سياسـة وثقافـة وطوائفـاً وعشائر وعائـلات وعادات لا ولـم يـُجمعوا إلا على شيءٍ واحد ... ومـا تبقى بعـده يتوافقون على أشياء ويختلفون على غيرها .... أجمعوا ويجمعون على أن فلسطين وطنهم ولا وطن لهم سواه ، وتوافقوا بأن هذا الـوطن الذي نـُكبوا به ، ونـُكبوا فيه لا طريق لاسـتعـادتـه إلا الكفـاح المسـلـح وكافـة أشكـال النضـال المكملـة لـه وللجميع حق المشاركة أو عـدمهـا واختيار شكل هذا النضال وفـق ظرفه وطاقته ... هذا عنـدمـا كان الفلسطينييون لاجـئيـن ... ثم ... وهذا عـندما صـاروا لاجئين ونازحين وتحت نير الاحتلال ، وبقي كـلٌ يعمـل طـوعـاً وفق طاقته دون السعي لإقصاء أحد أو إلحاق الأذي به ... ثم تحولوا إلى التوافق على المرحلية بعد أن أتاحت حرب اكتوبر / تشرين 1973 للنظـام العربي ... كـل النظام العربي والإقليمي والدولي بأن يَجـْهـَرَ للفلسـطيني وبـدون مواربه بحقيقة ما يلـتزم بـه هـذا النظـام ، وكل نـظام ... وبأنه لا يرى ما يراه الفلسـطيني ، واسـتطاع وعي الوطنيين العقلاء في الإبقاء على العلاقة بين كل الاتجاهات في إطار الصراع ضمن الوحدة بعيداً عن الاتهام والتخوين ، لإدراكهم مـدى مخاطر وكوارث الإقصاء . وكان اختيـار حماس للبديل دون الـمـُكمّل اختياراً طوعياً وأخذته حماس رغم ثبوت الفشـل الكارثي لهذا الخيار في تجارب كل الدنيا .
ثالثاً : اعتماد حماس لمنهـاج تفسير الـدين بالسـياسة ، وليس تهذيـب السياسة بالدين ... وإلباس الكفاح الفلسطيني لباساً دينياً متحزباً ومـُتحيّزاً حصروه في فكر فئة بعينها من المسلمين ، ولم تكـن هذه الـفئة ولن تكون محل إجماع ولا توافق لأغلبية من المسلمين لا في فلـسطين ولا في غيرها ... علاوة على غياب الإجماع والـتوافق أو الانسـجـام في الاجتهاد والتأويل داخل هذه الفئة وفيمـا بين أطرافهـا.
وسارت حماس بثـلاث خطـايا في الـتطـبيق :
أولاً : خطيئة في النهج التعبوي اعتمد الفرز والتـصنيف للمجتمع الفلسطيني وقواه الفاعلة إلى فسـطـاطي كفر وإيمان مع كل ما يرافقهما من مصطلحات تشحن بالضغائن والأحقاد غير المبررة وكم هائل من الإفتراءات والـتزوير للتاريخ وللمواقف فـيما لـهم وعليهم وفيما للآخرين وعليهم ... كل هذا في مـجـتمع فلسطيني قلّ أن تجدله مثيلاً في التـسامح والتكافل الراسخ في النفوس بما ورثوه منذ بشارات ووصايا الأنبياء وحوارييهم وصحابتهم وأتباعهـم الذين ولـِدوا أو عاشوا أو مرّوا بارضه ... وبما زادته ورسخـته النكبات التي مرّ بها من قيّم لهذا التسامح والتكافل ... إضافه إلى مقتضيات مرحلة التحرر الوطـني من ضرورات توجب العمل لكل مكونـات المجتمع في جبهة عريضة متوافقة على قواسم جامعة تُميّز بين التناقضات والتعارضات الثانوية والتناقض الرئيسي .
ثانياً : خطيئة ضيق الأفق في قراءة الواقع والأحداث ومواجهتهما وتقييم نتائجهما ... وكان أبرزها ما جرى بعد الانتخابات التشريعية حيث قادتهم القراءة القاصرة لتوزيع الأصوات إلى اعتلاء مقر المجلس التشريعي ورفع علم حماس بديلاً للعلم الفلسطيني تتويجاً للتعبئة القاصرة عن فهم المعاني والدلالات للرموز المرتبطة بالـتضحيات دفاعاً عن قضية ما ... وما فعلوه في النصب التذكاري للجندي المجهول ، كما قادهم هذا القصور إلى طوباوية الاعتقاد بأن من أعطاهم صوته قد بايعهم والتزم لهم بالـسمع والطاعة كما يُبايعون ويلتزمون لأمرائهم ... غافلين أو مـُتغـْافـِلين أن الفلسطيني لم ولن يُقرَّ ببيعة إلا لفلسطين بطريقته وقدر استطاعته .
ثالثاً : خطيئة الاعتقاد بحقهم في الاستباحة خارج الضوابط الشرعيّة لإقامة الحدود لفرض الإقرار بالولاية القائمة على هذه الاستباحة ... فأفتوا وحرّضوا الأخ على استباحة دم أخيه وذوي رحمه ليدخل بهما الجنـّة ... وأفتوا وحرّضوا على التمثيل بضحاياهم بعد قتلهم... وأفتوا بترهيب أهلهم وأبناء شعبهم وتخيير الضحايا بموقع البتر أو التعطيل لأطراف ضحاياهم ... واستباحوا الممتلكات العامة والخاصة ... ثم كانت لحظة الفجور الكبرى في إعلان نجاح انقلابهم عندما وصفوه بالتحرير الثاني لغـزّة ... تحريراً ما زالت غزّة وأهلها يكتوون بناره التي لم تخمد بعد ... بل وتزداد اشتعالا .
وها هي حماس تحصد ثـلاثاً لا اُسـمنـت ولا أغـنـت مـن جوع :
أولاً : من أزمة الولاء ، وخطيئة التعبئة بالـتحريض وتزوير التاريخ والدعوة لفرز الأهل إلى فسـطاطين حصدت حماس انكشـافاًوفضحاً للكثير مما حاولوا التكـتم عليه ، وأحدث صـدمات للكثيرين ممن تساهلوا مع طروحاتها تجاه رؤيتها للمجـتمع الفلسطيني والتنوّع فيه بشكل عام ... وللقوى الفاعلة فيه وفصائل وشخصيّات الـعمل الوطني بشكل خاص ... صدمة جعلت هذه القوى والشخصيّات يكبحون من هذا التساهل ويضعون حداً لمحاولات الـتمدد لحماس التي وصلت ذروتها أيام عارها الكبير الذي أسمته حسماً ... وجعلت من هـذه القوى ســدّاً وتاريخاً قالوا ويقولون وسيقولون فيه لحماس: هنا وصلتم ولن تصلوا لشـيءٍ بعده أبـدا ... وفعلاً لم تكـسب بعدها حماس إلا ما يـُنجبه أعضائُها بالتناسل قبل بلوغ العقل ، ومـا يـُعطيه لهم كـل صاحب غرض لا يريدهم إلا ماءً يستخدمه ليغتسل به من نجاساته .
ثانياً : حصدت حماس من أزمـة الخيار الطوعي لمبدأ البديل القائم على نفي الآخرين واستئصالهم ، وخطيئة ضيق الأفق في قراءة الواقع والأحداث ومواجهتهما وتقييم نتائجهما ... انكشافاً لحدود المصداقية واستحضار الناس لقصة الثعلب الناسك من جهة ... وانكشافاً لمحدودية القدرة أمام العـدو ولامحدويتهـا أمام الأخ والصديق قياساً بالحجم الكبير من الإدعاء والدعاية ، وكان في التهدئة الملعونة الملوثة بالنجاسات الكبرى ... وفتاوي الصواريخ الضِرار وجواز الجلوس في حضرة الشيطـان الأكبر لبيان وشرح المواقف ... فارتفع سـدُّ الناس وصدّهم لحماس .
ثالثا : حصدت حماس من أزمة تفسير الدين بالسياسة ، وليس تهذيب السياسات به ... وإلباس الكفاح الفلسطيني لباسـاً دينياً محصوراً في فئة حزبية بعينها من المسلمين ، وخطيئة الاعتقاد بحقهم في استباحة الممتلكات العامة والخاصة ... وولوغها في الـدم والتمثيل بضحاياها بعد قتلهم خارج الحدود الشرعية ... إنكشافاً وفضائح لزيف الدعوة والإدعاء بالدين ... وانكشف اتخاذهم للدين مطيـّة يصلون بها إلى ما قامت عليه رغبات وشهوات أمرائهم القـدامى والجـدد ، هذا الانكشاف الذي كان سبباً في العديد من التمردات داخلهم... تمردات من أناس تبعوهم بصفاء سريرة وصلاح نيّـة لرفع الـغمّة عن الأمـّة ... وتمردات لمجمـوعات أنار الله بصرها وبصيرتها ونموذجهـا تلـك المجموعة التي كانت النواة في تأسيس وانطـلاقة حركة فـتح وقوات العاصفة ، وتلك التي كوّنت حركة الجهاد وسرايا القدس ( إن سَلِمَـتْ مما يُراد لها ويحـُاك عليها) ... ومجموعات أنار الله بصرها وعميت بصيرتها فذهبت تحارب قشور المعاصي تاركة كل أمر جلل ... ومجموعات طمس الله بصرهـا وبصيرتها فسارت مع كل غزوٍ واحتلال تُزّينه للناس وتسهم في التخفف من وقع بشاعاته . هذه الأزمـة وهذه الخطيئة ساقت حماس ليس إلى نفي الآخر واستئصاله فحسب بل إلى الولوج في نفي واستئصـال بعضاً من الذات والأنصار يتلوه استئصـال بعضاً آخر ... فأين انتهى نزار ريّان بعد أن وقف على جُثث بعـض أهله في المنتدى متوجاً أيام العار مهللاً بنجاح الانقلاب ؟؟؟ ... وإين انتهى الشيخ عبداللطيف موسى ومسجـده بعـد خطبة وصاياه الذهبية لإسماعيل هنيّة ؟؟؟ .
في الـذكـرى الثلاثين لقيامها ولعارها الذي أصابنـا وإن كان لا يـُعيبنا ... فما الذي بقي من حماس ؟؟؟ وما الذي بقي لها ؟؟؟ :
حماس زرعت فينا نحن الفلسـطينيين في اثني عشر عاما منذ ارتكاب عارها الذي أسمته حسماً مـا لـم يسـتطع زرعه فينا غـُلاة المسـتعمرين والمسـتوطنين والمتصهينين في أكثر من مائة عام ، وجعلت الأم الفلسطينية تاج أمهات الدنيا تقف مكسورة القلب بين اثنين مـن أبنائهـاعندما تناديهم فيردون بلسانين لا تفهم بهما، ولا شيء عـنهما ، ولا لسبب استمراهما بهذا الرطن ...وجعلتها تجلس بين قبريـن لاثنين آخرين من أبنائها لا تجرؤ على نـعتهما بالشهداء ، ولا على الفخر بهما ....
وبعد هذا فما الذي بقي من حماس ؟؟؟ وما الذي بقي لها لتفعله غير كيل المـدائح لأصحاب غرض ينعتها بالمقاومة ليـتلـطي به استجلاباً لمصالح بلاده ، أو لجعلها مـاءً يغسل به الآخرين نجاسـاتهم في بلاد العرب أو ساترا لجباة عوائد التهريب ؟؟؟ .
الـمـرء عــدوٌ لـمـا يـجهــل ... أللهـم إني أسـألـك الـعـفـو إن كـان ما قلته جهــلاً !!!
بقلم/ حسني المشهور