نتنياهو.. من فتحة ضيقة دخلت… ومن تلك الفتحة تخرج

بقلم: عماد شقور

تروي إحدى الحكايات الشعبية، قصة الفأر الغبي الشّرِه، الذي جاع فضمر جسمه الى ان عثر على حبة قرع وافرة اللب طرية القشرة، فقضم من قشرها الى ان احدث فيها فتحة صغيرة مكنت جسمه النحيل من الولوج الى اللب، حيث اخذ يأكل بشراهة وينام مطمئنا ليستيقظ ويستانف اكل اللب سعيدا بما استحوذ عليه من خير عميم. وعندما انتهى من اكل كل اللب، وامتلك جسما مكتنزا ومنتفخا عزم على الخروج من حيث دخل، فتعذر عليه ذلك، لاختلاف التناسب بين الفتحة الضيقة التي مكّنت جسده النحيف من الدخول، وحالت دون جسده الضخم والمنفوخ من الخروج. وعندما عجزت اسنانه ومخالبه عن توسيع فتحة الدخول وتوسيعها لتصبح فتحة للخروج ايضا، حيث كانت القشرة قد اصبحت صلبة قاسية، ظل الفأر الغبي حبيسا داخل قشرة حبة القرع اياما واسابيع يعاني الجوع، الى ان ضمر جسمه وعاد الى حجمه السابق، ونجح في الخروج من الفتحة التي دخل منها.
محكوم على نتنياهو، (واسرائيل معه)، ان لا يخرج من بطن دبّابته الوثيرة الفرش، والمليئة بالمال وباحدث الاجهزة العصرية، الى الهواء الطلق الا عبر فتحتها الضيّقة. هذه هي قوانين الطبيعة التي يستحيل على اسرائيل تجاوزها او كسرها، رغم كل ما تمتلكه من عناصر القوة العسكرية والمادية.
للطبيعة قوانينها الازلية التي لا تحول ولا تزول. والسياسة الحكيمة العاقلة هي تلك التي تتماشى مع ما تحكم به هذه القوانين، (مع هامش ضئيل من امكانية اجراء تحسينات لمصلحة استمرار وتقدم وتطور الحياة)، في حين ان السياسة الغبية هي تلك التي تحاول عبثا كسر ايٍّ من تلك القوانين. وهذه هي بالضبط السياسة التي يعتمدها نتنياهو وحكومته اليمينية العنصرية الشوفينية.
في تاريخ صراعنا الطويل هذا، مع الحركة الصهيونية واسرائيل، ثلاث محطات رئيسية: 1917، 1947 و1967.
ـ في محطة 1917، اعطت بريطانيا "العظمى"، (وكانت في ذلك الوقت حقيقة وعمليا القوة العظمى الاولى في العالم)، للحركة الصهيونية "وعد بلفور" الذي ضمنته تأكيد حق اليهود في تقرير مصيرهم في فلسطين، رغم ان نسبتهم لم تتجاوز خمسة بالمئة من سكان فلسطين، وسلبت الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير، ورأت فيهم مجرد افراد لهم حقوق فردية، وطوائف لها حقوق دينية وبعض مقدسات واماكن عبادة.
عززت بريطانيا توجهها هذا، باستصدار قرار من "عصبة الأمم"، (النسخة الاولى من "هيئة الأمم المتحدة")، تم بموجبه تكليفها بان تكون هي دولة الانتداب على فلسطين، وعززت ذلك ايضا بتضمين صك الانتداب تكليف عصبة الأمم لها بتنفيذ وعد بلفور. كانت تلك هي "الشرعية الدولية" في تلك المرحلة.
توالت عمليات رفض الفلسطينيين لوعد بلفور وللسياسة البريطانية. وتخللت ذلك عمليات عنف وصدامات واضرابات كان اهمها اضراب العام 1936، اطول اضراب في التاريخ، واستمر ستة اشهر. وأثمر هذا النضال الفلسطيني، لكن ثمرته لم تكن بالحجم الذى سعى اليه الشعب الفلسطيني.
ـ في محطة 1947، بعد حرب عالمية ثانية؛ وبعد ان تنامى وترسخ الوجود اليهودي في فلسطين، وتعزز هذا الوجود بتنظيمات سياسية وامكانيات مالية وقدرات زراعية وصناعية، وتشكيلات عسكرية منظمة مدربة ومالكة لاسلحة حديثة؛ وبعد مذابح ومحارق نازية راح ضحيتها ملايين من يهود اوروبا، تُرجمت في نهاية الحرب الى تعاطف عالمي غير مسبوق مع اليهود؛ اعادت "هيئة الأمم المتحدة"، (النسخة المنقحة عن "عصبة الامم")، تأكيد "الشرعية الدولية" على حق اليهود في اقامة دولة يهودية في فلسطين، ولكن هذه الشرعية الدولية تراجعت في هذه المحطة عمّا قررته في شرعية محطة 1917، واعطت للفلسطينيين ما سلبته منهم، واعطتهم حقهم في تقرير المصير، باقامة دولة عربية على جزء من ارض فلسطين رسمته خطوط خارطة التقسيم، بموجب القرار رقم 181 الذي صدر يوم 29.11.1947.
لم يقتنص الفلسطينيون الفرصة، وارتكبت قيادتهم الحماقة التي ما زلنا نعاني من ضياعها حتى يومنا هذا.
لحق بهذه المحطة، وترتب عليها مسلسل من الاحداث الجسام: حرب واحتلال ولجوء وخيانات ومؤامرات، ومعها، بطبيعة الحال، وبموجب قوانين الطبيعة، بدء نشوء حالات عدم قبول بهذا الواقع من الظلم، وبدء اخراج الارض الطيبة لنبتات المقاومة، وتطورها لتصبح، لاحقا، شجرة الثورة الفلسطينية العميقة الجذور القوية الفروع الكثيرة الاغصان.
لم تعد بريطانيا "عظمى"، عمليا، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولم تعد بريطانيا "عظمى"، رسميا وعلنيا، بعد العدوان الثلاثي على مصر، واحتلت الولايات (الدول)/المتحدة الأمريكية هذا الموقع العالمي عمليا ورسميا. وبذكاء صهيوني لا فائدة من انكاره، ازاحت الحركة الصهيونية دافيد بن غوريون من مقعد قيادة اسرائيل، ونصّبت ليفي اشكول في ذلك المقعد، لكي تفتح الباب في هذا الإجراء لنقل بريطانيا من الدرجة الأعلى في سُلّم تحالفاتها، لتخصيص تلك الدرجة لأمريكا ولاستهداف وضعها على رأس سُلّم تحالفاتها، لمواجهة قوة الزعيم العربي الخالد، جمال عبد الناصر، الذي بدأ بإعادة مصر الى عصر فراعنتها العظام، وإعادة الروح الى الامة العربية، وإعادة مبادئ الحرية ودحر الاستعمار والظلم الى اسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية. ووصلت اسرائيل، الى مشارف المحطة الثالثة، "مدججة" بتحالف مع أمريكا.
ـ في محطة 1967، بعد هزيمة ساحقة لبريطانيا (انطوني ايدن)، وفرنسا (غي مو ليه)، واسرائيل (بن غوريون)، تغير شكل العالم.
× بريطانيا، بفضل كل ما فيها من عناصر القوة المتغيرة وعناصر القوة الثابتة، بقيت دولة مركزية في اوروبا وفي العالم، ومعززة بدول الكومنويلث.
× فرنسا، بفضل كل ما فيها من عناصر القوة المتغيرة وعناصر القوة الثابتة، بقيت دولة مركزية في اوروبا وفي العالم، ومعززة بالدول الفرانكوفونية.
× الحركة الصهيونية واسرائيل، وبسبب انعدام امتلاكها لأيٍّ من عناصر القوة الثابتة والدائمة، وبسبب اقتصار عناصر قوتها المتغيرة على عنصر التحالفات، وبسبب كونها طارئة على المنطقة، لجأت الى وضع كل ما لديها، وكل الدور الذي يمكن لها ان تلعبه، في السلة الأمريكية الطامعة في وراثة كل ما هيمنت عليه الامبراطورية البريطانية سابقا. وابتلعت اسرائيل بفضل الدعم الأمريكي غير المحدود، خمسة اضعاف ما كان حجمها: كل شبه جزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية، وكل الضفة الغربية الفلسطينية وقطاع غزة.
كان طبيعيا، والحال كذلك، ان تتقيّأ/تنسحب من سيناء، وان تتفاوض لـ"النزول" من هضبة الجولان السورية
نخلص من كل هذا الى قناعة كاملة:
انتشرت في اسرائيل وفي فلسطين وفي العالم، ما بين عام النكبة (1948) وعام النكسة (1967)، مقولة ان "اسرائيل هي جيش له دولة". وانتشرت في اسرائيل وفي فلسطين وفي العالم، ما بين عام النكسة (1967) وايامنا هذه مقولة ان "اسرائيل هي مستوطنون لهم جيش، ولجيشهم دولة".
هذه معادلات عرجاء، قد تحقق مكاسب وانتصارات في غفلة او غفلات من الزمن، لكن الخاتمة محسومة: هذه منطقة عربية، هي كذلك منذ الاف السنين، وهي كذلك لآلاف مقبلة من السنين.
ليس لنتنياهو، آكل القرع السمين، من مخرج، إلّا بمغادرة الدبابة التي هي خطر علينا بمقدار ما هي سجن له.

عماد شقور
٭ كاتب فلسطيني