مرة أخرى يعتلي الرئيس الفلسطيني منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة متحدثاً عن قضية القضايا، القضية التي جاوز عمرها عمر الغالبية من الدول التي تمكنت من حجز مكاناً لها في الأمم المتحدة، القضية التي ولدت قبل أن يولد العديد ممن سيستمعون لخطاب الرئيس، القضية التي كانت الأمم المتحدة جزءاً من نكبتها وشاهداً على تفاصيل المأساة الممتدة لعقود، القضية التي تمتلك من القرارات في أرشيف الأمم المتحدة ما لا تملكه قضية أخرى، القضية التي هرمت وهي تتنقل بين مجلس الأمن والجمعية العامة دون أن تجد شيئاً من العدالة ينهي آخر احتلال على كوكب الأرض، مؤكد أن المستمعين للرئيس على معرفة جيدة بالقضية ويعرفون الكثير من معاناة الشعب الفلسطيني على مدار العقود الطويلة، ويعلمون أيضاً كيف أوصلت حكومة الاحتلال مسيرة السلام لحالة الموت السريري، يمكن للرئيس أن يتناول بكثير من التفاصيل التسلسل التاريخي للقضية وانتهاكات حكومات الاحتلال اليومية ليحدد بها ملامح المأساة الفلسطينية بشقيها الانساني والسياسي، ويتوقف بجمل واضحة حول الثوابت الفلسطينية واحدة تلو الأخرى كي يغلق بها الباب أمام المشككين، ولا يمكن للرئيس أن يقفز في خطابه عن "صفعة القرن" الأمريكية والتناغم القائم بين إدارة ترامب ونتانياهو لوأد فكرة الدولتين، ولن يخلو الخطاب من عتاب للمجتمع الدولي حول مسؤوليته عن استمرار التراجيديا الفلسطينية وقد يأتي في صيغة الاستفهام "نروح لمين؟"، قبل أن ينهي خطابه بإعادة المناشدة للمجتمع الدولي بإنقاذ مسيرة السلام قبل فوات الآوان، سيحظى الرئيس بمحطات من التصفيق فليس ثمة ما هو أنسب لذلك من أن تنشد العدالة وتقف في وجه الظلم.
ويمكن لنا أن نرصد المشهد الفلسطيني في الساعة التي تلي الخطاب عبر صفحات التواصل الاجتماعي، حيث الانقسام بين من يصف الخطاب بالتاريخي وأنه محطة مهمة في تاريخ القضية الفلسطينية يمكن البناء عليها، وبين مشكك يبحث عن ثغرة هنا وهفوة هناك أو على أقل تقدير وصفه بأنه لم يأت بجديد، ويكون الخطاب قد فتح صفحة من النقاش البيزنطي ولعبة تسجيل النقاط كما هو الحال مع ما سبقه، أما على الصعيد الدولي سيتحول الخطاب إلى مادة تضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة يمكن للباحثين في مسألة الصرع الفلسطيني الإسرائيلي العودة إليها.
الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية الآن تختلف عما كانت عليه في السابق، وادراة ترامب لم تعد "وسيطاً منحازا للاحتلال" كما كانت عليه الادارات الأمريكية السابقة بل أنها باتت الأداة التنفيذية لسياسة حكومة الاحتلال، وشئنا أم أبينا فإن الحديث عن مفاوضات يمكن لها أن تفضي لحل الدولتين هو مجرد وهم وأن مسيرة السلام لفظت أنفاسها ألأخيرة ولم يبق سوى الاصدار الرسمي لشهادة الوفاة، وأيضاً البحث عن وسيط غير امريكا هو أضغاث أحلام ومضيعة للوقت، ومن العبث الاعتقاد بأن المجتمع الدولي بإمكانه الامساك بزمام الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بمعزل عن الادارة الأمريكية أو بمقدوره أن يعيد ترامب إلى رشده، ويجب علينا ألا نخطيء التقدير معتمدين على أن قلوب العالم معنا ومتجاهلين في الوقت ذاته أن صمتهم يمهد الطريق لترامب وحكومة الاحتلال أن يمضيا في تنفيذ ما يخدم الاحتلال من صفقة القرن، أمام ذلك لم يعد أمام القيادة الفلسطينية مجالاً للمناورة سيما وأن عامل الزمن يصب في مصلحة الاحتلال وما تقوم به من خلق وقائع على الأرض تنسف به حل الدولتين، ومناشدة المجتمع الدولي بالتحرك لإنقاذ ما يمكن انقاذه لن تتعدى حدود الاستهلاك الاعلامي، وليس من المفيد في شيء أن نلجأ إلى لغة التهديد التي فقدت مفعولها، ومع ذلك ما زلنا نمتلك ما يمكن فعله، وقد يكون في حل السلطة وتحمل الاحتلال لمسؤولياته ما نقلب به الطاولة في وجه ترامب وصديقه نتانياهو لكنه في الوقت ذاته لا يخلو من المجازفة بمنطق "عليا وعلى أعدائي"، لكن أمام الرئيس فرصة اليوم لأن يعيد القضية الفلسطينية إلى مكانتها ويفرض أجندتها على المجتمع الدولي لا أن يكتفي بمناشدته واستجداء تحركه، بأن يعلن من على منصة الأمم المتحدة البدء الفوري في تنفيذ قرار الأمم المتحدة الاعتراف بفلسطين دولة بخطوات ثابتة، وأنه سيشرع في تشكيل حكومة دولة فلسطين بمشاركة الكل الفلسطيني وتتولى الحكومة مسؤولياتها قاطبة وبذلك يطوي صفحة الانقسام، وأن العلاقة مع الاحتلال تحكمها العلاقة بين الدول، حينها سيلتف الكل الفلسطيني خلفه ولن تجد حماس طاقة تنفذ منها للتنصل من التسليم لحكومة فلسطين بكافة صلاحياتها، يكون بذلك قد فرض بالفعل الفلسطيني على المجتمع الدولي التحرك وجاء بالرد العملي على صفقة القرن.
الشيء الذي يجب ألا يفعله الرئيس في خطابه أمام الأمم المتحدة أن يدفعه عجزها في ايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية لإعادة طرح السؤال على الحضور "نروح لمين؟"، لأن في ذلك إعادة لحكاية أغنية أم كلثوم "أروح لمين" التي أحبها جمال عبد الناصر وحرصت أم كلثوم على أن تشدو بها أو شيئاً منها في الفقرة الثانية من حفلاتها، فقد تم تصنيف الأغنية على قائمة الأغاني العاطفية التي تتغزل كلماتها بالحبيبة، رغم أن كاتب كلماتها البكباشي عبد السلام السباعي لم يذهب بها إلى هذا الحيز، كان البكباشي من ضمن ضباط الصف الثاني في تنظيم الضباط الأحرار، وعمل بعد ثورة يوليو في مكتب الرئيس إلى أن حلت عليه وشاية أطاحت به وأبعدته عن مكتب الرئيس، فكتب "أروح لمين" معاتباً فيها الزعيم جمال عبد الناصر ، باحثاً عن انصاف الزعيم له من الظلم الذي وقع عليه، لم يعد البكباشي للعمل في مكتب الرئيس وبات بعدها أقرب للأدب منه للسياسة.
د. أسامه الفرا