لعب الاعلام الامريكي دورا كبيرا في تصدير مصطلح صفقة القرن كحل لمشكلة تاريخية طال امدها. وقد اعتمدت الصورة الذهنية التي رافقت هذا الترويج على مسألتين رئيسيتن: الاولى ان هذه الصفقة تأتي بموافقة عربية وبضمانات امريكية لتنفيذها وبحلول سيتم الاتفاق عليها مع القيادة الفلسطينية او بدائلها، والثانية أنها تأتي في اطار مواءمة التغيرات في المنطقة العربية مع رؤى تحقيق "السلام" بنكهة أمريكية. ما لم يشر اليه الاعلام الأمريكي هو ان القرار الذي يصنعه البتردولار لا يمثل الاجماع العربي، وان معالجة وتمرير اخبار السياسات الامريكية المرتبطة بفرض هذه الصفقة على مراحل وكأخبار منفصلة كما لو انها ليست جزءا من لعبة إعادة رسم المنطقة بالقوة والابتزاز فشل في تجميلها أو ترويجها، بل انه ساهم أيضا في تكشف معطيات جديدة حول الانحياز الأمريكي الذي أخرج الولايات المتحدة من دورها كوسيط نزيه في عملية السلام باتجاه الانحياز الكامل للاحتلال وأداة في تمرير سياساته العنصرية القمعية التي تستهدف شعبا كاملا في وجوده وأمنه ومقدراته ومستقبله وحلمة الوطني بل وفي وحدته.
إعلاميا أيضا ولكن على الصعيد المحلي، لا يبدو ان هناك معالجة ناضجة لمضامين صفقة القرن او التحركات الممكنة في اطار قيادة الشارع باتجاهات واضحة ومحددة، اذ تدور اغلب التغطيات حول تسريبات تستند الى ما قرأه البعض من تغطيات الاعلام الإسرائيلي او ما نشر سابقا من خطط مثل خطة ايالون او غيورا ايلاند وتعاملوا مع صفقة القرن كما مع اوسلو، حيث تكررت التصريحات في البداية بانها سرية وبأنه لم يتم الاطلاع على مضمونها ثم ذهبت باتجاه معالجات دراماتيكية غير قادرة على تعزيز صوره ذهنية لشعب مهدد بالمحو الكامل بفعل هذه الصفقة ومنظمة القوانين العنصرية التي مهدت لها مثل قومية الدولة. اما اعلام حماس، فقد لجأ الى التخوين، كالعادة، والى التهجم على شخص الرئيس مع المطالبة بمسيرات لنزع الشرعية عنه تمهيدا لخطاب امريكي إسرائيلي يفشل خطاب الرئيس وقراراته بحجة انه لا يمثل الكل الفلسطيني وهذه سابقة خطيرة، أما بعد الخطاب، سنلاحظ تركيز اعلامهم على مكررات نلخصها برسالتين هما انه كان خطابا دون التوقعات وانه كان على الرئيس ان يهتم بالمصالحة فقط.
وفي الوقت الذي يجب ان يذهب فيه الاعلام والتقارير الاخبارية الى مراجعة تاريخ الصراع بين شعب تمسك بكل طرح يمكن ان يحقق السلام وكيان محتل يستخدم المفاوضات والمماطلة السياسية لاحتلال المزيد من الأرض وبناء المستعمرات واستكمال الجدار العنصري العازل وأسرلة مدينة القدس واستباحة الدم والوطن الفلسطيني، نجد انفسنا امام محاولات بعض وسائل الاعلام تمرير صفقة تتجاوز اللاجئين وحلم إقامة الدولة المتواصلة ذات السيادة بعاصمتها القدس ويقف على الحياد في قضايا البلطجة سياسية وقرارات قطع المساعدات الامريكية حتى عن الاونروا وتجمل محاولات خلق اجسام بديلة لمنظمة التحرير وتتساوق مع الانقسام الفلسطيني الذي أضعف البيت الوطني في هذا الوقت، وحيث اننا احوج ما يكون الى الاصطفاف خلف قيادتنا ومنظمتنا رافضين باستهجان واضح المحاولات الامريكية خلق بدائل لها بمباركة صهيونية وتعزيز الشقاق بأموال البترودولار لدول قزمة في المنطقة، سواء كانت تلك البدائل مؤسساتية او حزبية حركية تمهد بعض قياداتها للقبول بتمرير صفقات مشبوهة تنسف الثوابت وتقزم النضال الفلسطيني وتمسخ الحلم الفلسطيني بدولة مستقلة عاصمتها القدس الى دويلة على جزء من ارضنا دون قدس او مقدسات، فيما تدفع الجزء الاخر وحاضنة القدس وجبل الثورة والنار الى اللاشئ مع حكم بالاعدام على الحقوق الوطنية.
السيد الرئيس الذي يقود الان خطابا اعلاميا وسياسيا ذكيا يستند فيه وبشكل واضح الى ما يريده الشعب الفلسطيني، ويواجه ما تحاول دولة الاحتلال تكريسه كصورة نمطية تحمل القيادة الفلسطينية الفشل في عملية السلام، الاعلام الإسرائيلي يعبر بشكل واضح عن قلقٍ لدى قيادة دولة الاحتلال والمراقبين في امريكيا واسرائيل من تداعيات خطاب مختلف وقوي للرئيس الفلسطيني في الامم المتحدة، ومن هذا الموقف الشجاع الذي اربك الحسابات الامريكية والإسرائيلية، ويصب الان غضبه كما المسؤولين الإسرائيليين من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود أولمرت، إثر لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس على هامش زيارته العاصمة الفرنسية، باريس.
فمن ناحية إعلامية، يكسر خطاب أولمرت الصورة النمطية التي عملت البروباغاندا الإسرائيلية لسنوات على ترويجها لتحميل أبو مازن مسؤولية الفشل في عملية السلام، كما ان توقيته غاية في الأهمية والحساسية السياسية، اما دلالاته السياسية، فتذهب باتجاه تحميل نتياهو وحكومته المتطرفة مسؤولية الوصول الى طريق مسدود في الأفق السياسي للصراع في الشرق الاوسط. أولمرت الذي يستعد للعودة الى الحياة السياسية في إسرائيل يثير الكثير من النقاط الواجب على المجتمع الدولي والإسرائيلي إعادة النظر اليها، فأبي مازن: «هو أهم شخص في منظومة العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية" يضيف أولمرت في مقابلة مع تلفزيون فلسطين "إنني مقتنع بأنه لو استمريت في منصبي لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر، لكنا قد توصلنا إلى اتفاق سلام مع السلطة الفلسطينية، وعندما لا يقول "أبو مازن": لا، هذا يعني، حسب فهمي، أنه يمكن تحقيق السلام، "أبو مازن" لم يعارض المخطط الذي اقترحناه حين كنت رئيساً للوزراء".
كانت وسائل الاعلام الاسرائيلية وبعض كثير من وسائل الاعلام العالمية ولم تزل جزء من منظومة سياسية أمرو- اسرائيلية منحازة، فالاعلام مرآة لكواليس السياسة واتجاهاتها، الا ان اللافت في الامر انضمام وسائل اعلام حزبية محلية لجوقتها حتى تعمل على تأصيل ثقافة الكره والانقسام والتحريض والتخوين والتشكيك والتهجم، فيما تتساوق معها تصريحات على وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت منبرا لنشر خطاب يكرس حالة عنف في الخطاب الإعلامي الفلسطيني. هذا الخطاب الغريب على نسيجنا الوحدوي وحلمنا الوطني يمثل أدوات تنفيذية لسياسات الاحتلال وحلفائه أمريكيا وإقليميا.
لقد تعرضنا كشعب فلسطيني لاكبر خديعة في التاريخ، ليس كخديعة الهنود الحمر الذين ظنوا الاوروبيين القادمين من البحر آلهة، اذ كانت الاتفاقيات والمفاوضات غطاء إسرائيليا برعاية أمريكية لمزيد من الاستعمار وتكريس الاحتلال بأقل تكلفة ممكنة. نحن الان منقسمون، يواجه اغلبنا مخططا تدعمه اقلية لنسف مشروع الدولة وتحويلها الى دويلة. حيث لعبت إسرائيل على مسألة إذكاء وهم السيادة بين المنقسمين في وطن محاصر ومحتل. لا ننكر بحال اننا شعب لم ينجح حتى الان في استعادة وحدتنا لعدة أسباب ليس اقلها اقتناع بعضنا بان لهم الأفضلية في القيادة والمناصب والامتيازات والمكانة وان المشروع الوطني هو ملكية خاصة برسم جغرافي محدد وبأن بساط السيطرة والسيادة قد سحب وينبغي ان يعود باي ثمن، فتحالف الوهم مع الدهاء الاسرائيلي لاخراج غزة كمشروع ورؤية قابلة للتحقق كدويلة على حساب وطن بأكمله وشعب لاجئ او مهدد بالاقتلاع والترحيل والعيش في معازل وكنتونات تحت وصاية ما او إدارة لا ترقى الى وصف، فهل سيؤدي خطاب الرئيس الذي سيضع العالم امام خيارين: اما العمل بكل السبل على انقاذ حل الدولتين او تحميل المجتمع الدولي مسؤولياته، الى معالجة اعلامية أكثر عدالة لقضية شعب تحت الاحتلال تكون ركيزة لتعريته وحلفائه وتعمل على التحذير من مخططات محو كامل لشعب بنى أريحا قبل عشرة الاف عام والقدس قبل ستة الاف عام، ولم يزل، وبأن أبي مازن لم يقل لا لاي محاولة للتوصل الى حل سلمي للصراع القائم على أساس الشرعية الدولية لإقامة دولة فلسطينية متواصلة وكاملة السيادة كما انه الرئيس الذي لن يقول نعم لصفقة القرن.
بقلم/ نداء يونس