جاءَ خِطاب الرئيس الفِلسطينيّ محمود عبّاس مُخيِّبًا للآمال، وتِكرارًا للعِبارات نَفسِها في خِطاباتِه الثَّمانِية السَّابِقة، لا جَديد على الإطلاق، تَسَوُّل التَّعاطُف الدوليّ نفسه، الحَديث عن عَدم التزام إسرائيل بالاتِّفاقات لم يَتغيّر إنشائيًّا أو لَغويًّا، اعتبار أمريكا وَسيط غير نَزيه ومُنحاز لإسرائيل سَمِعناه أكثَر مِن مِليون مرّة، ولهذا لم يَكُن غَريبًا، أو مُفاجِئًا، بالنِّسبةِ إلينا أن نرى القاعة شِبه خالِية مِن المَندوبين، ورُؤساء الوفود، وأن التَّصفيق الحار جاءَ في مُعظَمِه مِن الوَفدِ الفِلسطينيّ.
لن يَستجيب الرئيس دونالد ترامب مَع مطالب الرئيس عباس بإلغاء الاعتراف بالقُدس المُحتلَّة عاصِمَةً لإسرائيل، ولن تَكون القُدس الشرقيّة عاصِمةً للدَّولةِ الفِلسطينيّة، لأنّه لن تكون هُناك دَولة فِلسطينيّة في الأساس، وِفق صفقة القَرن الأمريكيّة التي دَخَلَت مرحلة التَّنفيذ على مَراحِل وبصُورةٍ مُتسارِعَةٍ، بدَعمٍ أمريكيٍّ وتَواطُؤ مِن بَعضِ العَرب، واستمرار التَّنسيقِ الأمنيّ الفِلسطينيّ.
***
تهديد الرئيس عبّاس بعَدم التزام أمريكا وإسرائيل بالاتِّفاقات التي جرى توقيعها مَعهُما لن يُخيف الدَّولَتين، ولن يَستَثير شَفَقَة أعضاء الأُمم المتحدة، فطالَما أنّه يَتَحدَّث مِثل “الأُم تريزا” عَن السَّلام ونَبذِ العُنف، والانخراطِ في مُكافَحة الإرهاب في أيِّ مَكانٍ في العالَم، مِثلَما أكَّد في خِطابِه، فلَن يَسْتَمِع إليه أو يَهابُه أحَد.
كانَ مُؤسِفًا أن يَتحدَّث الرئيس الفِلسطينيّ عن اتِّفاقاتِه مع حركة “حماس” مِن فوق مِنبَر الجمعيّة العامّة، ويُهَدِّد بعَدم الالتزام بأيِّ اتِّفاقاتّ وقَّعَهُ مَعَها، وهو التَّهديد الوَحيد الذي سيُنَفِّذُه، أي وَقف ما تَبقَّى مِن مُساعداتٍ لقِطاع غزّة، أي حواليّ 90 مِليون دولار شَهْريًّا هِي فواتير كهرباء ورواتِب تَذهَب غالبيّتها السَّاحِقة إلى كَوادِر حركة “فتح”، حِزب السُّلطة، فهَل هذا مَكان هذا التَّهديد؟ وهَل يُفيد العالم الاستماع إليه؟
المُجتَمع الدولي لن يَشْكُر الرئيس عبّاس عِندما طمأنُه بأنّه لن يَلجَأ إلى العُنف، ولن يَعود إلى “الإرهاب”، أي المُقاومة المَشروعة للاحتلال، وكيف سَيأتي هذا الشُّكر مِن مَندوبي أكثَر من 170 دولة انتزَعت الحُريّة والاستقلال عَبر المُقاومة، وليسَ مِن خِلال الاستِجداء والتَّباكِي على الحُقوق الضَّائِعة مِن على مَنابِر المُنَظَّمات الدوليّة.
مُنذ عَشرِ سنوات تقريبًا والرئيس عبّاس يتحدَّث عَن المُقاومة الشعبيّة السلميّة باعتبارِها الخِيار الوَحيد، نحن نَسأل: أينَ هِي هَذهِ المُقاوَمة، ولماذا تَقمَع أجهِزَة السُّلطَة الأمنيّة جميع النُّشَطاء السِّياسيين وتَزُج بِهِم في السُّجون، أو تُقَدِّم مَعلومات كامِلة عنهم إلى سُلطات الاحتلال وتُسَهِّل لها مُهِمَّة اعتقالِهم، أرجوكُم كَفَى كَذِبًا وتَضليلًا.. احتَرِموا عُقول شَعبَكُم العَظيم وشُهداءَه وأسراه.
***
نَسْأل الرئيس عبّاس: لماذا تُوقِف الإدارة الأمريكيّة جميع مُساعَداتِها الماليّة للمُستشفيات والمَدارس، ومُؤسَّسات السُّلطة، ومُنظَّمَة “الأونروا” وتَزيد حَجم مُساعَداتِها لقُوّات الأمن الفِلسطينيّة، في وَقتٍ يُعلِن فيه مُقاطَعته لأيِّ لِقاءٍ أو حِوار مع الوِلايات المتحدة؟ وما فائِدَة هَذهِ المُقاطَعة في هَذهِ الحالة؟
العَيب ليسَ في الأُمم المتحدة، ولا في أمريكا، ولا في إسرائيل، وإنّما في الرَّئيس عبّاس وقِيادَته وإدارته، وسُلطَته، وتَنسيقِه الأمنيّ وكَتَبَة خِطاباتِه، وجَوْقَة المُصفِّقين له، فعِندما كانت القِيادات الفِلسطينيّة تختار نَهج المُقاومة والتَّضحية كانَت أمريكا وإسرائيل وكُل الغَرب يَسْتَجدِي لِقاء الفِلسطينيين، والتَّفاوُض معهم، والاعتراف بِهِم، والخَوف مِنهُم.
هَذهِ المَسرحيّة الهَزليّة يَجِب أن تتوقَّف فَوْرًا ويَجِب أن تَسقُط كُل أقنِعَة وُجوه المُمَثِّلين على خَشَبَة مَسرَحِها، لقد طَفَح الكَيْل، ولا يَجِب أن يَستَمِر صَمْت الشَّعب الفِلسطينيّ على هذا الوَضع، سَواء في الوَطن أو في المَنافِي.
عبد الباري عطوان