في المكوّن العام، وبغير ما توقّعه مناصريه في حملة إعلامية واسعة سبقت الخطاب، وإنعقاد عاجل لأعضاء المجلس الوطني في عمّان دعى إليه أبو الأديب، يجدّدون فيه البيعة والوقوف مع الرّئيس في خوضه المعركة للحفاظ على الثّوابت الفلسطينية، وكما كانوا يدّعون لقلب الطاولة على ناتنياهو وعلى ترامب وعلى صفقة القرن. أتى المكوّن العام صادمًا لهؤلاء ولم يكن غير متوقعًا لمعارضيه.
البعض يتحدّث أن مفردات الخطاب أتت بما يتوافق مع المجتمع الدّولي ودول الإقليم وحالة التشابك الدّولية الإقليمية المرتبطة بالمصالح والتي تجاوزت القضية الفلسطينية كقضية مركزية للعرب، ولم يكن باستطاعة أبو مازن أن يتحدّث عن غير تلك المفردات، ولكن أستطيع القول أن تلك المفردات أتت ضعيفة ركيكة مهتزّة مستجدية لواقع ضعف حاول أن يعكسه الرئيس عباس عن الشعب الفلسطيني، وهو مخالف للحقيقة والواقع، فالشعب الفلسطيني شعب مقاوم عنيد ذو إرادة عالية يسجل يوميًا أرقى أنواع البطولات الفردية والجماعية سواء في مسيرات العودة أو في ثورة السكاكين الدهس، أو اقتحام المستوطنات في الضفة الغربية، وهو ما ينافي لهجة وأبجديات الرئيس عباس الذي حاول من خلالها أن يوصل مفهوم أن الشعب الفلسطيني لا حول له ولا قوة وينتظر من العالم أن يعطيه بعض الحقوق على طبق من ذهب وبمقاومة سلمية خجولة في الضفة الغربية، في حين أنه كان يمكن أن يركز على المقاومة بشكلها الحقيقي في الضفة وغزة، يقول الرئيس عباس أنه أتى ممثلًا للشعب الفلسطيني من خلال تجديد شرعية منظمة التحرير والسلطة، وهذا مخالف للحقيقة أيضًا، وهو يعرف ذلك، ومن يحيطون به يعرفون ذلك، ولأن الواقع يتحدّث عن ذلك أيضًا، فالمؤتمر السابع الحركي تم باقصاء العديد من القيادات والكوادر، بمختلف توجّهاتهم الفكرية والسلوكية ولكن الجميع مرتبط بالمفهوم النضالي الرائد لحركة فتح، هؤلاء الذين أقصوا من أطرهم، أما عن ما يسمى المجلس الوطني في المقاطعة فقد كان خرقًا للنظام الأساسي أيضًا المعمول به في منظمة التحرير، وغالبيتهم أتوا بالتعيين أو مضى على عضويتهم بالمجلس أكثر من ثلاث عقود، فعن أي شرعية يتكلم الرئيس.
ما علينا.. المهم أنه ذهب للأمم المتحدة كرئيس للسلطة ورئيس لفتح ورئيس لمنظمة التحرير، فكان يجب إن لم يكن قد أصغى لعدة نصائح ألقاها عليه عبر وسائل مختلفة قيادات وكوادر في حركة فتح وقوى وطنية أخرى بأن يذهب للجمعية العامة وهو محمل بالوحدة الوطنية وتمتين البيت الفلسطيني فتحاويًا ووطنيًا، والإعلان عن الدولة الفلسطينية إن لم يكن على أرض الضفة فالتكن في غزة، واجتماع طارئ لمجلس وطني فلسطيني يضع ويحدد برنامج توافقي وطني ينهينا من مشكلة التمكين وأزمة وجود السلاح من عدمه أو وحدانيته من خلال حكومة وحدة وطنيّة وقوّات على غرار جيش التحرير الفلسطيني تجمع كل الفصائل وسلاحها مع الإيمان بأن النضال الوطني الفلسطيني يحتاج كل الأدوات النضالية، والغريب هنا أن الرئيس عبّاس أقر أكثر من مرة بفشل نهجه التفاوضي العدمي وهو ما ثبّت هذا المنظور في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، إذًا كان يجب قبل الذهاب للأمم المتحدة الوصول إلى مصالحة ووقف التنفيذ الأمني وإلغاء أوسلو وليس تعليقها أو تعليق الإعتراف بالإحتلال.
الرّئيس عبّاس أدار ظهره لكل تلك النصائح القيمة الحريصة على وحدة فتح ووحدة الحركة الوطنية ووحدة القوى الوطنية والإسلامية لخوض معركة مواجهة صفقة القرن وغيرها، كما أن معد هذا الخطاب لم يدرك مدى التناقضات السياسية في هذا الخطاب، حيث يظهر الآتي:
1- هناك مغالطة كارثية تاريخية قد تقر فلسطينيًا مشروع الحركة الصهيونية في دولة على أرض فلسطين، وهذا يكرّس الإعتراف بوجود ما يسمى إسرائيل على غالبية أرض فلسطين، حيث ذكر عباس أن الإحتلال لفلسطين مضى عليه واحد وخمسين عامًا، أي في عام 1967، والحقيقة التاريخية التي لا يجهلها طفل عربي أو دولي أن الإحتلال لفلسطين قد اكتمل منذ واحد وسبعين عامًا، أي في عام 1948، هل هذه سقطة أم خطأ أم خطيئة مضافة لمحدّدات نهج عبّاس بالإقرار بوجود إسرئيل وكما هو أوضح أن الفلسطينيين ليس لديهم شيء ولم يأخذوا شيء، وعندما أقر أن عدد يقدر بالعشرات من قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة لم ينفذ منها قرارًا واحدًا.
2- الرّئيس عباس يقول أن جميع قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة لم ينفذ منها قرار واحد، ويستمر في الحصول على عدة قرارات لن تغير شيئًا في الواقع ما لم يكن الفلسطينيون مبادرون غير متلقّين، ولكن الرئيس عباس يبدو أنه حالة خاصة من الضعف لا تعكس قوة الشعب الفلسطيني ولا واقعه.
3- الرّئيس عباس يتحدث عن مقاومة سلمية وفي نفس الوقت يترجّى بأن تقوم أي جهة بإقناع الإسرائيليين بالمفاوضات وبدون شروط.
4- الرّئيس عبّاس كالعادة وما قبل الخطاب بعدة سنوات يهدّد بسحب الإعتراف من أوسلو وإعادة مفاتيح السلطة للإحتلال، وكما أوضح أمين سر التنفيذية صائب عريقات، وكذلك التنسيق الأمني، وما جاء في خطابه تهديد وليس قرار، ومخالف لقرارات المركزي في دورتين سابقتين، وهي قرارات ملزمة وغير خاضعة للمناورة.
5- الرئيس عباس يتحدث عن آخر محاولة للمصالحة تحت شروطه الثّلاث، سلاح واحد وقانون واحد، وحكومة واحدة، وفي تلك الشروط الثّلاث يلغي حق الشعب الفلسطيني في النضال والمقاومة الفعالة لصنع معادلة سياسية لتخضع إسرائيل لحل سلمي ولو بالحد الأدنى، أو ببرنامج ما يسمى بالواقعية.
6- معظم مكونات خطاب عباس تسرد واقع مضى، ولا تجيب على واقع مستحدث، واستحقاقات فلسطينية، ولكن ما هو ملفت للنّظر اللهجة الحادة بخصوص المصالحة وبخصوص غزة، التي كرّرها "لا.. لا ..لا لن نكون مسؤولين عن غزة إن لم يتحقق كذا وكذا وكذا.." أي أن الرئيس لازال مصرًا على فشلة وعلى أن يأخذ الساحة الفلسطينية إلى الهاوية، فإن هدد عباس غزة واتخذ عدة قرارات فهذا يعني أن محمود عباس ينفذ ما تريده أمريكا وإسرائيل بفصل الضفة عن غزة، أي محمود عباس يستخدم بعض الجمل هي للتلاعب العاطفي، ولكن ما هو مستتر أخطر ما يكون على القضية الفلسطينية وعلى وحدة ما تبقى من أرض الوطن.
7- عندما قال عباس القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، لم يضف بذلك جديدًا على لائحة المطالب الفلسطينية، فهي قد أقرت منذ التحول إلى البرنامج المرحلي والنقاط العشر في عام 1974 بأن القدس عاصمة الدولة في بقايا الوطن في الضفة وغزة، ولكن من المفيد أن نسأل السؤال الآتي: ماذا قدم محمود عباس أو السلطة للقدس أو للخان الأحمر أ للخليل المهودة أو لنابلس المحاطة بالمستوطنات، وماذا قدمت قوى أمنه ومؤسساته للحفاظ على الحالة الوطنية في الضفة التي ينتشر فيها الفساد بكل ألوانه من عصابات ومسلكيات وتحرش وسرقة ونهب وقتل، وهي ظواهر إنفلاش تحطم الحالة الوطنية في ظل ما يدعي قانون واحد وسلطة واحدة.
8- تهديد عباس لغزة وكما أوضح ليبرمان أن الرئيس عباس يدفع إسرائيل لمواجهة مع حماس وكما قال نحن متنبهين لهذا التوجه، ولذلك تهديدات الرئيس وإن اتخذ عدة قرارات تليها يعني ذلك أن كل المكون الوطني الفلسطيني قد انهار، فالضفة محتلة تمامًا واكتمل المشروع الصهيوني فيها وليست جاهزة أن تكون دولة أو شبه دولة أو حكمًا ذاتيًا، بل كنتونات وروابط مدن، أما غزة فيعني ذلك أنه ليس أمامها إلا خيار واحد وهو المواجهة لهذا الواقع ولو بمواجهة عسكرية شاملة ومهما تكن النتائج، أما حالة الإستسلام التي ينتظرها عباس في خلال ثلاث شهور لن تحدث وعقلية الغزيين معروفة، ولقد سبق أن تحدث عن أربعينية إستسلام غزة في بداية عقوباته وقرارته على غزة، أي محددة بأربعين يوم، ولم تسقط غزة ولم تستسلم.
إذًا، بلا شك أن المستقبل يحمل الجديد وفي منتهى الخطورة مما يفرض على كل الوطنيين وبشكل عاجل إتخاذ خطوات وقائية لما ستحدثه قرارات عبّاس إن حدثت، ولكن أؤكد أيضًا أن الرئيس عباس ليس بمقدوره لا حل السلطة ولا التراجع في اعترافه بإسرائيل ولا وقف التنسيق الأمني، أي بمعنى أن القيادة السياسية الفلسطينية مرهونة بوجود الطرفين الآخرين في أوسلو وهي إسرائيل والدول المانحة.
بقلم/سميح خلف