كولوسيوم الأمم المتحدة

بقلم: أسامه الفرا

بمجرد أن أنهى الرئيس الفلسطيني خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها "73" حتى سارع الكثير للتعقيب عليه، الواضح أن الكثير من التعليقات تم صياغتها بل وتحديد مفرداتها قبل أن يعرف أصحابها فحوى الخطاب، لم تخرج أي من التعقيبات عن النص المنتظر من أصحابها حيث تجسدت فيها حالة الانشطار الرأسي التي أصابت الوطن وكشفت عورة الذات التي تغلغلت فيه، انقسمت معه الأقلام إلى فسطاطين أحدهما جعل من مفردات الخطاب صاحبة عضلات مفتولة وبنية قوية أطاحت بالخصوم أرضاً على حلبة المصارعة، وأنها تصلح لأن تكون زيتاً نسرج بها التاريخ ونحصن بها الثوابت التي تآكلت بفعل عوامل التعرية الأقليمية والدولية، فيما الفريق الآخر لم يتأخر في أخراج ما في جعبته من وصف سريالي لحالة الضعف والوهن التي جاء بها الخطاب بفعل تكلس مفرداته مما أفقده القدرة على استحضار حركة أكروباتية تسترعي إهتمام الحضور.

تقف علوم التنمية البشرية عاجزة عن تحديد مقاييس القوة والضعف التي نعتمدها في تقييمنا للخطاب، حيث أنها لا تحمل مواصفات محددة يمكن أن يستند عليه العلم كأحد أدوات فن الخطابة المتفق عليها اللهم إلا المديح والثناء من جهة والقدح والذم من جهة أخرى المعدة سلفاً والمطلوب الإلتزام بحذافيرها كي لا يفقد أصحابها امتيازاتهم الظاهرية، محصلة قيمة الخطاب تكمن في قدرته على احداث التغيير الذي يهدف اليه، أما عناصره فقد أشبعت بحثاً من قبل خبراء التنمية البشرية والذين لم يتركوا شاردة أو واردة إلا وتوقفوا عندها بالتفصيل بدءاً من لغة الجسد مروراً بالمحتوى وانتهاءاً بالنقطة والفاصلة ونبرة الصوت، يمكن لأي منا أن يدلو بدلوه حول الخطاب ويلج به باب التحليل السياسي وسواء حملت التعليقات مفردات العنترية أو لازمت العقلانية فلن تخرج عن سياقها بأنها للاستهلاك المحلي اللحظي، فيما يجلس في الخفاء من يعكف على التحليل العلمي للخطاب ولا يترك منه كلمة أو حركة إلا وأبحر في مدلولاتها ليس من باب صياغة تغريدة تحظى بأكبر قدر ممكن من الإعجاب بل ليضع أمام قيادته استشرافاً لما بعده.

تمكن الرئيس من احتواء حالتة الصحية التي حاولت أن تشوش على ايقاع الخطاب، لكنه لم يتمكن من فعل الشيء ذاته مع الحالة الصحية للوطن، والحقيقة أنه لم يحاول أن يفعل ذلك حيث مرض الانقسام طل برأسه في أكثر من موضع، وسواء سلمنا بانعكاس مرض الانقسام على المحتوى ومخرجاته سيما وأنه سبق الخطاب تشكيكاً من حركة حماس في تمثيل الرئيس للشعب الفلسطيني في توقيت هو الأسوأ أم أهملنا ذلك على قاعدة غياب المؤشرات التي تنبيء بخطوات عملية تخرجنا من محطة المناشدة والانتظار، الواضح أن فحوى الخطاب لم تبتعد كثيراً عما جاء في سابقه باستثناء التعريج على المستجدات بينهما المتعلقة بقانون القومية لدولة الاحتلال وصفقة القرن التي جرى تنفيذ الشق الأخطر فيها، وقد يكون في ذلك تفسيراً لعدم تفاعل الحضور مع الخطاب كما كان عليه الحال في الخطاب السابق.

بعيدأ عن مفردات القوة والضعف في عملية التقييم للخطاب والتي لا تصلح كي تكون أدوات قياس له، فلم يكن مطلوباً من الرئيس أن يلعب دور المصارع الروماني في كولوسيوم الأمم المتحدة، وفي ذات الوقت ليس من المناسب في خضم الأحداث التي تعصف بالقضية الفلسطينية أن نعتمد لغة الاستجداء، وليس من الملائم أن نطالب العالم بالتحرك في الوقت الذي أدمنا الانتظار وتمسك أبجديات السكون بتلابيبنا، لن يتحرك العالم طالما بقينا في مربع العجز والتردد، ولن يصلح حالنا خطاب مهما عظمت مفرداته.

بقلم/ د. أسامه الفرا