الهمروجة التي سبقت وتبعت خطاب الرئيس أبو مازن في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم أول أمس السابع والعشرين من الشهر الجاري تعبر عن/ وتعكس حالة البؤس السياسي التي وصلت إليها النخب السياسية الفلسطينية ، سواء تعلق الأمر بمناصري الرئيس أو بمعارضيه . صحيح أنه في كل مرة يذهب الرئيس إلى الأمم المتحدة ليخاطب العالم يحدث شيء قريب من هذا ولكن في هذه المرة زادت الأمور عن حدها حيث ضخم وهول مناصرو الرئيس من أهمية خطاب الرئيس لدرجة الاعتقاد أنه بهذا الخطاب سيحقق انتصارا ساحقا على إسرائيل وواشنطن وسيُحدث نقلة نوعية في مسار العملية السياسية ويخُط نهجا جديدا في التعامل مع إسرائيل وواشنطن قد يصل لدرجة سحب الاعتراف بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني وإنهاء السلطة ، وصاحب كل ذلك دعوات لتسيير المظاهرات وعقد التجمعات وتسخير الإعلام الرسمي والفتحاوي للاحتفاء بهذا الحدث التاريخي وحديث عن اعتقال عناصر من معارضي السلطة وخصوصا من حماس !!! .
في المقابل هون معارضو الرئيس من خطوة ذهاب الرئيس للأمم المتحدة بل وسخفوها واستبقوا الأمر بترويج أن الرئيس ذاهب ليفرط بالحقوق الفلسطينية ويتوسل للعالم الاعتراف به وبسلطته وقد يؤلب العالم على حركة حماس ويُعلن عن إجراءات ذات طبيعة دولية ضدها حتى (المجلس التشريعي) الذي يُفترض أنه يمثل الشعب وليس حركة حماس فقط تم تجنيده في هذه الحملة ! ، وصاحب هذا الخطاب المُشكك والمتخوف من خطاب الرئيس حملات اعتقال واستدعاء لأعضاء ومسئولين من حركة فتح وتهديد واضح بقمع كل تحرك يحدث في قطاع غزة مؤيد للرئيس أثناء القاء خطابه ، بالإضافة إلى الصورة المسيئة التي تم تعليقها في دوار السرايا .
هذه الهمروجة حول خطاب الرئيس في الوقت الذي تحتل فيه إسرائيل كل فلسطين وتمر القضية الفلسطينية بمفترق خطير حيث تتكاثف الجهود المعادية الرامية لتصفية القضية الفلسطينية ، والتي تتزامن أيضا مع ذكرى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية قبل ثمانية عشر عاما ، إنما تعبر عن ثقافة سياسية جديدة للأحزاب السياسية وهي ثقافة الخِطابة والشعارات والمناكفات السياسية بأسلوب وأدوات وصلت لدرجة البذاءة السياسية والأخلاقية ، كما تخفي حالة التردي من عجز وفشل لكل مكونات (النظام السياسي الفلسطيني) ومحاولة تغطية العجز عن مواجهة العدو الرئيس الذي يحتل الأرض باصطناع عدو (وطني) يتم تحميله مسؤولية الفشل كما يخفي صراعا على السلطة وعلى التموقع في تسوية قادمة .
ما كان الحدث يستحق كل ذلك لأن الأمر ببساطة حدث روتيني سنوي يحدث كل عام حيث يشارك أغلب زعماء دول العالم من أكبر الدول إلى أصغرها . إن كانت دول العالم ارتقت بموقفها المساند لعدالة القضية الفلسطينية واعترفت بفلسطين دولة مراقب بما يسمح لها حضور المؤتمرات الدولية ، وإذا كان الرئيس الأمريكي ترامب خاطب العالم وروج لسياساته المعادية للشعب الفلسطيني ورئيس وزراء إسرائيل نتنياهو القى خطابا مليئا بالأكاذيب والأساطير التوراتية وهاجم الشعب الفلسطيني وتَنَكر لأي حق فلسطيني وبقية زعماء العالم طرحوا قضايا شعوبهم ... فمن الطبيعي والمطلوب دوليا ووطنيا حضور طرف فلسطيني ليتحدث عن المظلومية الفلسطينية والرواية الفلسطينية ، ولأن من يُسمح لهم بالحضور هم قادة الدول فمن الطبيعي أن يحضر الرئيس أبو مازن بصفته رئيس منظمة التحرير ورئيس الدولة الفلسطينية .
أخطأ مناصرو الرئيس وأساءوا له عندما ضخموا من الحدث وسيروا مسيرات حضرها المئات مما أظهر الرئيس وكأنه رئيس جماعة أو رئيس جزء من الشعب ، ولو تركوا الأمر يسير بهدوء لكانت النتائج أفضل ، والمعارضون وخصوصا حركة حماس أساءوا لفلسطين ولأنفسهم في موقفهم غير العقلاني عندما خلطوا ما بين الخلافات الداخلية وكيفية إدارتها من جانب والصورة التي يجب أن نظهر بها أمام العالم من جهة أخرى ، حيث تشنجوا ودعوا لمظاهرات ومسيرات ضد زيارة الرئيس أبو مازن لهيئة دولية تنتظر من يتحدث عن القضية الفلسطينية ويطرح أمام العالم المظلومية الفلسطينية بلغة يفهمها زعماء العالم المجتمعين في الجمعية العامة للأمم المتحدة وأغلبهم يعترفون بإسرائيل ويقيمون معها علاقات دبلوماسية بما فيهم دول عربية .
استمرت الهمروجة حتى ما بعد القاء الخطاب ما بين مؤيد ومعارض لمضمونه ، فالمؤيدون وجدوا في الخطاب ما يتوافق مع الثوابت الوطنية وأن الرئيس كان واضحا في تناول المظلومية والرواية الفلسطينية بالإضافة إلى توجيهه انذارا نهائيا للإدارتين الأمريكية والإسرائيلية بأن الفلسطينيين لن يستمروا طويلا ملتزمين بالاتفاقات الموقعة ، و هؤلاء المؤيدون يرون أنه ما كان للرئيس أن يُعلي من سقف خطابه بسبب ضعف الحالة العربية وقوة سطوة واشنطن على المشهد الدولي وانشغال العالم بمشاكل أخرى يراها أكثر أهمية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالإضافة إلى الانقسام الفلسطيني وضعف الجبهة الداخلية الفلسطينية .
أما المعارضون لمضمون الخطاب فينقسمون إلى فئتين : الأولى هم المعارضون بالأساس للرئيس وللسلطة ولمنظمة التحرير بغض النظر عن مضمون الخطاب وعلى رأسهم حركة حماس ، وهؤلاء يرون أن الخطاب مكرر وأن الرئيس كان ضعيفا ومستجديا للمفاوضات ولعملية التسوية وأنه لم يطرح أي بديل أو رؤية في حالة عدم التجاوب مع الحقوق الفلسطينية ، وكان أكثر ما أثارهم إشارة الرئيس للانقسام ولحركة حماس مما قد يُفسر بتهيئته العالم لاتخاذ إجراءات كبيرة وذات طبيعة دولية في مواجهة حماس . أما الفئة الثانية فكان انتقادهم موضوعيا ينطلق من الأمل لو أن الرئيس تجاوز حالة التموقع في موقف المظلومية واستجداء المفاوضات والسلام برومانسية وطهرية سياسية تتعارض مع السياسة الواقعية التي تحكم العالم ، كما يؤخذ على خطاب الرئيس تكرار التلويح بمتلازمة (إما أو ) بمعنى إما أن تقوم واشنطن وتل أبيب بكذا وكذا أو يقوم الفلسطينيون بكذا وكذا وهو تهديد تكرر عبر السنين دون رؤية أو استراتيجية للرد الفلسطيني في حالة استمرار واشنطن وتل أبيب على موقفهما .
وأخيرا ، انتهت همروجة خطاب الرئيس ولم تنتهي همروجة الانقسام والمصالحة والمقاومة ومسيرات كسر الحصار ، فكان الله في عون الشعب الفلسطيني .
بقلم/ د. إبراهيم ابراش