في مناسبة ومقام كتلك التي توفرت للرئيس محمود عباس، لإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما كان ينبغي أن تشكل محطة لتعميق حالة الاستقطاب السياسي، وزيادة تعكير مياه النهر.
لم يكن الرئيس قد وصل إلى نيويورك، حتى بدأت الشائعات تنتشر حول إذا ما كانت الولايات المتحدة، ستمنحه والوفد المرافق تأشيرات الدخول، وسط تصريحات وتحليلات لطبيعة الخطاب ومضامينه.
خطاب الرئيس وقع بين دفتي طاحونة، فمن جهة رفع المؤيدون سقوف التوقعات إلى أعلى مستوى ممكن، ودعوا الجماهير للاحتشاد في الساحات العامة لإظهار التأييد له.
ينسى هؤلاء أن ثمة من يتربصون، ويستخدمون هذا التصعيد في أشكال التأييد للحكم على مضامين وآثار الخطاب.
ونسي هؤلاء أيضاً أن المقام الذي سيلقي الرئيس من عليه خطابه، ليس أكثر من ندوة كبيرة بات الكثيرون عندنا يستنكفون عن حضورها، وأنه لا نتائج مباشرة لكل الخطابات التي يلقيها رؤساء أو مسؤولو الدول من على ذلك المنبر.
وفي المقابل اتهم المعارضون للخطاب، الخطاب وصاحبه، بشتى الاتهامات ومنعوا أي نشاط يستهدف إظهار التأييد للرئيس، قبل أن تعقد كتلة حماس وحدها اجتماعاً لما تسميه المجلس التشريعي! لنزع الشرعية عن الرئيس، وخلال هذا الاشتباك اندلعت حملة من الاعتقالات والاستدعاءات والتحقيقات السياسية في الضفة وغزة كل لأنصار الطرف الآخر.
تناسى الطرفان الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية والمخاطر التي تحيط بها، وتناسوا أن الرئيس لا يمثل دولة كبرى، حتى نتوقع منه أن يذهب إلى الأمم المتحدة ليعلن الحرب على من أعلنوا الحرب على الشعب الفلسطيني.
على أن ما تم تظهيره على السطح، من خلاف عميق في الساحة الفلسطينية، في مناسبة غير مناسبة لخوض واستظهار سوء الأحوال، لا يمكن إلاّ أن يشكل رسالة سلبية عن حال الشعب الفلسطيني كله، وعن مدى ضعفه بسبب استمرار هذا الانقسام.
ولم يكن للرئيس أو لأي من كان سيمثل الفلسطينيين من على منبر الجمعية العامة أن يعلن من هناك استراتيجية وطنية جديدة، لم يألف سماعها ممثلو الدول الأخرى، ولا كان بالإمكان أن يعلن من هناك تنفيذ القرارات التي اتخذتها المجالس الوطنية، والمركزية الفلسطينية.
باختصار كان على الرئيس أن يطرح أمام المجتمع الدولي المظلومية، الفلسطينية، وبلغة ومضمون الضحية، ما يعكس واقع الحال فالشعب الفلسطيني ضحية احتلال عنصري، توسعي، عدواني بغيض مدعوم بكل القوة التي تمتلكها الولايات المتحدة، احتلال يصم أذنيه عن كل قرارات الأمم المتحدة، ونداءات الشعوب، ويقارع قوة الحق بحق القوة.
التعبير عن المظلومية، لا يعني استجداء الآخرين، طالما أنه مدعوم بسياسات ومواقف تؤكد التمسك بالحق، والاستعداد لمقاومة منطق وأدوات حق القوة.
الخطاب تقليدي نعم، ولا يختلف كثيراً عن خطاب الرئيس في الدورة السابقة للجمعية العمومية، اللهم إلاّ ما يتعلق بالموقف من التطورات التي وقعت بعد ذلك الخطاب، وترفع من مستوى المخاطر التي تعمق المظلومية.
الصراع هو الصراع، والعدو هو العدو، وتعطيل العملية السلمية وقع منذ سنوات، لكن الولايات المتحدة انتقلت من موقع الانحياز الكامل لإسرائيل، إلى موقع التبني الكامل للسياسة الإسرائيلية، وأعلنت عداءها السافر على الشعب الفلسطيني وحقوقه وعلى الأمم المتحدة ومرجعياتها القانونية، بما فتح الطريق أوتوستراداً أمام التغول الصهيوني.
لا يحتاج الأمر إلى متابعة أو معاتبة لمن امتنع عن حضور الخطاب، فلا نظن أن ذلك مؤشر على تراجع المجتمع الدولي عن تأييده للحق الفلسطيني، فالتصويتات على القرارات تؤكد استمرار التزام الأغلبية بدعم القضية الفلسطينية، ولم يكن الغياب ناجما عن الخوف من استبداد وتهديدات الولايات المتحدة أو التحريض الإسرائيلي، فلقد جربت الولايات المتحدة ابتزاز الدول الأخرى، في مرات سابقة لكنها حصدت الفشل تلو الآخر.
إذا هو أن الخطاب تقليدي، ومضامينه متكررة، ولا نظن أن ذلك عيب. كان على الرئيس أن يذكر المجتمع الدولي بأن استمرار صمته، على العدوان الأميركي الإسرائيلي، يشكل عاملا مشجعا لإسرائيل، وأن يدعو إلى تحريك طاقة إيجابية لحماية الأمم المتحدة وقراراتها ومرجعياتها، وهو جزء من رسالته التي كانت واضحة في الخطاب.
وإذا استثنينا أن خطاب الرئيس، ما كان له أن يتناول الشأن الداخلي، والانقسام، وطريقة معالجة هذا الانقسام، والتهديد باتخاذ إجراءات بحق حركة حماس، فإن مضمون الخطاب وقوته، أو ضعفه، هو تعبير وانعكاس، لقوة أو ضعف واقع الحال الفلسطيني.
لم يكن ممكناً تجاوز اللغة وأشكال التعبير، التي يطيب للمجتمع الدولي سماعها، ويدعوها لمواصلة تأييدها وتضامنها مع الشعب الفلسطيني وقضيته، فالصراع طويل طويل، ومفتوح على كل أشكال النضال، ولكن حين يتعلق الأمر بالمجتمع الدولي فهذا لا يفهم ولا يستوعب إلاّ لغة الحق والعدل والسلام، في ضوء ما تركه الإرهاب من تهديدات، وآثار كارثية على نطاق واسع من هذا العالم.
وفي الأخير فإن تغيير لغة ومضامين الخطاب أي خطاب مرهون بما يقوم به الفلسطينيون ابتداءً من تحسين وتحصين أوضاعهم وتجميع وتنظيم قدراتهم، وإلاّ فإن من هانت عليه نفسه لا يحق له أن ينتظر من الآخرين من يرفع عنه المهانة.
بقلم/ طلال عوكل