قبل أن يتوجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس لإلقاء كلمته السنوية أمام الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة، انقسم الناس في فلسطين إلى قسمين: قسم أطلق على نفسه "فوضناك"، وقسم أطلق على نفسه "عباس لا يمثلنا". ومن مجرد التسمية تشعر بأن هناك موقفين وجماعتين وقطبين لا يلتقيان، ويعكسان حالة الانقسام التي تعيشه الساحة الفلسطينية منذ أكثر من إحدى عشرة سنة.
وفي رأيي أن كلا الموقفين خطأ بيّن. فجماعة المفوّضين اتخذوا هذا الشعار انطلاقا من موقف قبلي وتعصب تنظيمي وتضامن مع زعيم الحركة، التي ينتمون إليها من دون الانتظار إلى ما بعد الكلمة، ليروا ما إذا كانت تستحق التفويض فعلا. أما الذين رفضوا التفويض سلفا كان بإمكانهم انتظار الخطاب كي يستندوا في موقفهم الرافض إلى مضمونه، وما ورد فيه من مسائل يعترضون عليها. ففي مثل الوضع الفلسطيني يجب ألا يكون التفويض على بياض، ولا الرفض مطلقا لمجرد الرفض.
وبما أنني لست من جماعة "فوضناك" ولا من جماعة "عباس لا يمثلنا" أود أن أطرح بعض الملاحظات الموضوعية في الكلمة، من وجهة نظري، وأنا المتابع لكافة خطابات القيادات الفلسطينية المتعاقبة، منذ نهايات السبعينيات وحتى اليوم. وأقول في البداية إن الخطاب هذه المرة، بشكل عام، غير متناسق، ويبدو أن أكثر من شخص ساهم في كتابته. ففيه فقرات قوية جدا ثم يهبط مستوى الخطاب مرات، ويعود يرتفع ويقفز من نقطة إلى أخرى من دون تسلسل. كما أن خروج الرئيس الفلسطيني عن النص مرارا أضعف تأثير الخطاب، خاصة إذا كان الخروج نوعا من العتاب والاستجداء والاستفهام الاستنكاري. أضف إلى هذه الملاحظات الخارجية لغة الجسد ومظاهر الوهن وزفرات التعب، التي تأخذ حصتها من فاعلية الخطاب وقوة تأثيره على تجمع كبير جاء من خلفيات ثقافية وحضارية متعددة.
وسأقتصر في ملاحظاتي على ثلاث نقاط – ما ذكر في الكلمة، وكان ذكره مهما وضروريا، وما ذكر في الكلمة وما كان يجب ألا يذكر وجاء ذكره مسيئا، وما غاب عن الكلمة من حقائق وتطورات، وكان غيابها ناقصا، ولو ذكر لزاد الخطاب قوة وتأثيرا.
أعتقد أن أفضل ما جاء في الخطاب الجزء المتعلق بالرد على "قانون القومية للشعب اليهودي" الذي اعتمده الكنيست الإسرائيلي بتاريخ 19 يوليو/تموز الماضي باعتباره يؤسس لدولة الفصل العنصري على طريقة "جنوب إفريقيا". فما كان لهذا التطور الخطير الذي أقره الكنيست، بغالبية بسيطة، أن يمر من دون تمحيص وتحليل وتحذير من خطورته. فهو لا يميز ضد العرب في فلسطين التاريخية الذي يمثلون 20% كما قال عباس، بل يميز ضد كل الفلسطينيين بكافة أطيافهم في كل أرض فلسطين التاريخية، التي يسميها القانون "أرض إسرائيل" والمقصود بها، كما لا يخفى على أحد، كل فلسطين. وهذا القانون يلغي كل صلة لغير اليهودي بأرض فلسطين، أي أنه يلغي 1400 سنة من التاريخ العربي الإسلامي المتواصل، ما عدا 88 سنة من الاحتلال الصليبي لفلسطين. وحبذا لو أضاف كاتب الخطاب أن القانون الجديد لا يشرعن الاستيطان رسميا في فلسطين فحسب، بل يجعله قيمة يهودية تدعمه الدولة، أي أن الاستيطان أصبح قانونا أساسيا لتهويد الأرض واحتلالها وطرد سكانها الأصليين، لتتسع للمهاجرين القادمين من كل أركان الدنيا إلى دولة كل اليهود أينما كانوا. "إن هذا القانون العنصري يشكل وصمة عار في جبين دولة إسرائيل وفي جبين كل من يسكت عنه"، كما جاء في الخطاب.
إن أسوأ ما جاء في الخطاب، في رأيي، هو ما يتعلق بالخلاف مع حماس، وما يحمله الخطاب من تهديد مبطن. وللعلم فهذا التهديد المبطن لم يكن موجودا في النص المكتوب، ولا أعرف سببا منطقيا يدعو الرئيس عباس للخروج عن النص ويقول: "نحن عقدنا اتفاقا برعاية مصرية بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول 2017- الاتفاق بسيط: الحكومة الفلسطينية تتولى مهماتها في غزة، كما تتولى مهماتها في الضفة الغربية. ثم نبني دولتنا على أساس قانون واحد، سلطة واحدة، نظام واحد، وسلاح شرعي واحد. لا يمكن أن نقبل دولة الميليشيات. لم يوافقوا على تنفيذ ذلك وإلى الآن لم نحصل على موافقتهم". ثم أضاف مرتجلا: "في الأيام القليلة القادمة ستكون آخر جولات الحوار. وبعد ذلك سيكون لنا شأن آخر". وكأن الدولة ستقام غدا والخوف أن يتعطل قيامها بسبب الميليشيات.
هذه هي المرة الأولى، على حد علمنا، يتحدث فيها رئيس دولة عن خلافات داخلية وشأن داخلي. ولا أعرف لماذا خرج عن النص الأصلي ليبحث شأنا داخليا يعزز المقولة التي تروجها إسرائيل وحلفاؤها، ومفادها أن الانقسام الفلسطيني هو السبب في عدم استئناف المفاوضات. ويطرحون دائما "مع من نفاوض؟". وكأن السنوات من 1993-2007 لم تكن كافية للتوصل لاتفاق سلام، وبدل هذه الشطحة كان الأفضل أن يدافع عن كل أبناء الشعب الفلسطيني بغض النظر عن انتماءاتهم وتوجهاتهم. فما دامت هناك قيادة معترف بها، وهي التي تفاوض وتوقع على الاتفاقيات فليس من شأن أحد أن تكون هناك فصائل وأفكار متعددة. فهل نتوقع أن يقوم نتنياهو مثلا بمهاجمة المستوطنين أو الأحزاب اليمينية أو اليسارية. حتى أنه لا يهاجم العرب أعضاء الكنيست الذين يستخدمهم ورقة لتبييض وجه إسرائيل القبيح. كان الأفضل أن يقفز عباس عن الخلاف الداخلي، ويذكر التطور الذي طرأ على فكر حماس وقبولها مبدأ الدولة الفلسطينية على جزء من فلسطين في وثيقة الدوحة في الأول من مايو/أيار 2017 (كما فعلت ذلك فتح تدريجيا منذ اعتماد فكرة السلطة الوطنية عام 1974 وصولا إلى برنامج الدولتين عام 1988).
إن المفاوض الفلسطيني يجب أن يكون مدعوما بالمقاوم، كما أن المقاوم يجب أن يكون مغطى بالمفاوض. فكل حركات التحرر في التاريخ اعتمدت على المقاومة والمفاوضات، وكلما اشتدت حدة المقاومة اقتربت ساعة حسم المفاوضات لصالح الضحية. إن وصم النضال الفلسطيني بأنه "عنف وإرهاب" يسيء إلى كل الشعب الفلسطيني وشهدائه وتاريخه وقياداته. فحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال حق لا يموت بالتقادم، ومضمون في القانون الدولي، ولا حاجة إلى التردد والتهرب من وصف النضال الفلسطيني بما يستحق. فقد ورد في الفقرة "5" من القرار 3236 الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني ما نصه: "وتعترف (الجمعية العامة) كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه".
أما النقطة التي غابت عن الخطاب وما كان يجب أن تغيب تحت أي ظرف من الظروف، هي تقديم تفصيل عن مسيرات العودة التي انطلقت من غزة الصمود والبطولات، ابتداء من يوم 30 مارس/آذار 2018 ، الذي صادف الذكرى 42 ليوم الأرض المجيد ووقع يومها 19 شهيدا، ثم تتابعت قوافل الشهداء وصولا إلى يوم الذروة في 14 مايو/ايار 2018، يوم افتتاح سفارة الولايات المتحدة على أرض القدس المحتلة، حيث جرت مذبحة هي الأضخم منذ حرب صيف 2014 إذ وصل عدد الشهداء إلى 65. كيف يمكن للرئيس أن ينسى أو يتناسى الشهيدة رزان النجار وقافلة الشهداء التي ما زالت تنزف، وقد سقط سبعة شهداء بعد الخطاب بـ24 ساعة. لماذا لم يقدم بيانا تفصيليا في عدد الذين استشهدوا من أطفال ونساء ومسنين وعمال إغاثة وصحافيين؟ لقد هزت مسيرات العودة السلمية والحضارية والمنظمة والمتواصلة بنيان الكيان، فراح يستخدم القوة المفرطة التي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لقد شغلت تلك الأحداث مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ومكتب منسق الشؤون الإنسانية واليونسيف والأونروا وغيرها. فقد استخدمت نيكي هيلي الفيتو ضد مشروع القرار الكويتي للحماية، ثم قدمت مشروعها المضاد فحصلت على صوتها فقط، ثم انتقل مشروع القرار إلى الجمعية العامة واعتمد يوم 13 يونيو/حزيران بغالبية 120 صوتا. ومع أن الرئيس أتى على ذكر قرار الحماية إلا أنه لم يضعه ضمن السياق التاريخي.
قد يتعاطف الحاضرون في القاعة مع خطاب المناشدة والضعف، ولكن عالم اليوم لا يحترم إلا من يقف بصلابة يدافع عن حقه من دون تردد أو وجل. فإبقاء الباب مواربا مع الأعداء ورفع وتيرة الخلاف مع جزء مهم من أبناء الشعب لا يدفع بالقضية إلى الأمام، بل يشجع الأعداء على التمادي في عدوانهم.
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي