"أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض". ذلك هو الشعار الأول الذي رفعته الحركة الصهيونية مبكرا، للترويج لاستجلاب المهاجرين اليهود إلى فلسطين، وتغريرهم وخداعهم بأنهم إنما يعمرون أرضا فارغة من السكان!.
وحقا نتج عن هذا الشعار، واحدة من أهم الكوارث الإنسانية في القرن العشرين، حين تم تدمير القرى الفلسطينية، وتهجير سكانها، مترافقا مع الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في 14 آيار/مايو عام 1948، على مساحة تزيد عن نصف المساحة الإجمالية لفلسطين التاريخية، دون أن تحدد الدولة الوليدة أو تعلن حدودها بالضبط، تمهيدا لتوسيعها في العام 1967 لتشمل، ليس كل فلسطين التاريخية فحسب، بل وأجزاء من الدول العربية المجاورة. الأمر الذي أبقى حدود إسرائيل السياسية دوماً مثارا للجدل إقليمياً وعالمياً.
عقب إعلان قيام دولة إسرائيل في العام 1948، أطلق الفلسطينيون على المناطق التي احتلتها تسمية "الأرض المحتلة". وفي العام 1967 بعد أن استكملت إسرائيل احتلال ما تبقى من فلسطين (قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية)، و رفض الأمم المتحدة الاعتراف بهذا الاحتلال الأخير، نقل الفلسطينيون اسم "الأرض المحتلة" من مسماه الأول إلى مسمى واقعي جديد: فصار اسم "الأرض المحتلة" يحيل إلى قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. ثم أطلقوا على الجزء المحتل من فلسطين قديما اسم "أرض 1948" وأحيانا رمزوا لها بما سمته وسائل الإعلام الإسرائيلية "الأراضي الواقعة وراء الخط الأخضر".
بقوة القوة، وبسطوة الواقع، وبفعل متغيرات كثيرة وتطورات عديدة، تغيرت المصطلحات السابقة، بحيث بدا واقعيا وقانونيا هذا التغيير، بعد توجه منظمة التحرير الفلسطينية نحو المفاوضات بحثاُ عن السلام المنشود والاستقرار في المنطقة، وبعد قرارات المجلس الوطني الفلسطيني الداعمة لهذا التوجه السلمي، وبفعل اتفاقيات السلام الموقعة بين إسرائيل ومصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبفعل دعم الإعلام العربي والدولي لهذه المتغيرات. بِقُوَّة كل هذا، أعيدت أخيراً صياغة المصطلحات القديمة، بل وأُنشِئت مكانها مصطلحات جديدة، تقول الآتي:
1ــ الأرض المحتلة: هي الأرض الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل بعد حرب يونيو1967 (قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية).
2ــ أرض الـ1948: هي ما يسميه الإسرائيليون أراضي ما وراء الخط الأخضر. وهي: الأرض التي قامت عليها دولة إسرائيل على إثر النكبة في العام 1948.
هذا مع العلم بأن مصطلح الأراضي المحتلة، في نظر الأمم المتحدة، يضم إلى جانب الأراضي الفلسطينية، أراضي سورية، هي هضبة الجولان، التي ما زالت محتلة حتى الآن، ولا مفاوضات بشأنها.
وبسبب هذا التغيير ــ الذي يبدو كما لو كان مقبولا لدى الكثيرين من الفلسطينيين والعرب ــ تسمي أجهزة الإعلام الإسرائيلية المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948: (عرب إسرائيل) أو (الوسط العربي)، أو (الأقلية العربية). فيما يسميهم الفلسطينيون الآخرون: (عرب48)، أو (أهلنا وراء الخط الأخضر)، أو (عرب الداخل).
وبرغم أن هؤلاء المواطنين الفلسطينيين ــ المتبقي في الأراضي الفلسطينية التي أقيمت عليها دولة إسرائيل ــ قد فُرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية، إلا أنهم محرومون من حقوق المواطنة الإسرائيلية الكاملة: إذ يحيون في نظام فصل عنصري، يشبه ما كان سائدا في جنوب أفريقيا قبل تحررها (الأبارتهايد)، فيما يعانون من الاضطهاد في جميع المناحي والمرافق الحياتية. والطريف أنه كثيرا ما كان يُطلب منهم إثبات ولائهم للدولة العبرية، فيما إذا أرادوا التمتع بالمواطنة الكاملة. بمعنى أن عليهم أن يتنكروا، بشكل أو بآخر، لهويتهم الفلسطينية. ورغم وجود قلة قليلة تنكرت فعلا لهويتها، إلا أنها سرعان ما اكتشف أنها لم تحصل على المساواة المدنية الكاملة.
إن دولة اسرائيل (المقامة فوق الأراضي المحتلة عام 48) ترى أن الوجود العربي، داخلها، هو تحدٍ معادٍ يجب مواجهته بكل الوسائل. لذا فقد صعدت من إجراءاتها في عزل المواطنين العرب، في الدولة العبرية، عن الضفة وغزة والقدس والدول العربية المجاورة. وهكذا بدت الجنسية الإسرائيلية الممنوحة للعرب ــ في نظر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ــ محل اشتباه دائم. وبذا فقد ازدادت صعوبة حياة الفلسطينيين في الدولة العبرية، يوما بعد آخر، وتشعبت تعقيداتها وازدادت تعقيدا بعد اقرار قانون "يهودية الدولة" الذي أقره الكنيست الإسرائيلي مؤخرا.
ذلك هو التحدي اليومي لأبناء الشعب الفلسطيني في الدولة العبرية: إصرار على الحياة بكرامة، وتشبث بالهوية الفلسطينية، ونضال مستمر لانتزاع الحقوق المدنية والسياسية. وفي هذا السياق، برزت لدى الفلسطينيين في الدولة العبرية فعاليات عديدة، ونُظمت أنشطة وتظاهرات واحتجاجات كثيرة، بل تشكلت مجموعات مقاومة تحمل أسماء مختلفة، وانخرط الكثيرون في صفوف الفصائل الفلسطينية، ليشاركوا في العمليات الفدائية. فسقط منهم جرحى وشهداء كثيرون. ولعل يوم الأرض أحد الشواهد العديدة، على قدرة الفلسطينيين في الدولة العبرية، على تحدي إرادة الدولة المغتصبة.
اختلفت الألوان، واختلطت الأحداث، وتنوعت الأهداف ما بين المدنية والوطنية وحتى القومية منها. ولكنها جميعا كانت سببا للاتهام؛ فاعتقلت السلطات الإسرائيلية الآلاف ممن تسميهم (مواطنيها)، بحجة الإخلال بالأمن العام، وعدم الالتزام بالقوانين.
هكذا نشأ مصطلح (أسرى الداخل) وهكذا حُفرت أسماء فلسطينية من أرض فلسطينية ــ غيروا اسمها إلى إسرائيل ــ عميقا في سجل النضال الوطني الفلسطيني وفي سجل الحركة الوطنية الأسيرة. وهكذا اصبحنا نرى معنا في السجون شبانا فلسطينيين غير لاجئين، وولدوا بعد النكبة، ومع ذلك فهم ينتسبون إلى حيفا ويافا واللد والناصرة وعكا والطيرة والمثلث وعارة وعرعرة وباقة الغربية، وأم الفحم... وغيرها من الأسماء المنقوشة عميقا، ومنذ وقت مبكر، في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. وهكذا حفظنا أسماء الشهداء منهم عن ظهر قلب، ورددت الألسن بفخر وعزة أسماء آخرين منهم، شكَّلوا نماذج مشرقة، للحركة الأسيرة عبر كافة المراحل والأزمنة، ونستحضر هنا عبد الرحيم عراقي، داوود تركي، حسن يونس، شوقي الخطيب، سامي يونس، فوزي النمر وفتح الله السقا. وهكذا نُقشت أسماء العشرات من عمداء الأسرى وجنرالات الصبر، ممن أمضوا أكثر من ربع قرن، في السجون الإسرائيلية، بل ثلاثين عاما وما يزيد، أمثال: كريم وماهر يونس، ابراهيم ورشدي أبو مخ، وليد دقة وابراهيم بيادسة، حافظ قندس ومخلص برغال ومحمد زيادة ومحمود جبارين وغيرهم الكثيرين.
ولئن عانى الأسرى الفلسطينيون من الضفة وغزة والقدس، في السجون، من سوء المعاملة؛ فلقد عانت هذه الشريحة من الأسرى الفلسطينيين ــ الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ــ من تمييز سوء معاملة مضاعف؛ وبذا فقد دفعوا ثمنا باهظاً لهويتهم، جراء هذا الازدواج القسري للجنسية. فلا هم أخذوا حقوقهم كمناضلين، ولا هم عوملوا معاملة السجناء اليهود. فعلى قاعدة أنهم "مواطنون إسرائيليون" رفضت إسرائيل دوما، السماح للسلطة الوطنية الفلسطينية بالمطالبة بهم، كما لم تقبل بالتفاوض بشأنهم مع الفصائل في صفقات التبادل.
ولكن رحمة الله تجد أبوابها حين يحل توقيت نزولها، فبالرغم من موقف إسرائيل هذا، استطاعت السلطة الفلسطينية، حينا، وفصائل المقاومة أحيانا أخرى، إجبار السلطة الإسرائيلية على إطلاق سراح عدد من هؤلاء الأسرى. إلا أن إسرائيل ما تزال حتى الآن، متمسكة بـ(معاييرها) الظالمة تجاههم، إذ تواصل وضع العراقيل أمام المطالبة بإطلاق سراحهم، وتُصر على أن يكملوا فترات محكومياتهم. وهذا ما حصل مع الأسير محمود جبارين من أم الفحم الذي استبعد من "الافراجات السياسية" واستثني من افراجات "صفقات التبادل" فأضطر لأن يكمل فترة حكمه قبل أن يطلق سراحه اليوم وأن يكون حرا طليقا بعد ثلاثين عاما قضاها في السجن.
أما حين نقارن بين ما يحدث في السجون للسجناء اليهود، وما يحدث للسجناء الفلسطينيين ــ من مواطني نفس الدولة ــ فسوف نكتشف كم هي مختلفة الأحوال جذرياً. وهذه بعض الحقوق التي يتمتع بها السجين اليهودي: المحادثات الهاتفية، الخروج في إجازات مع الأهل، المكوث في غرفة الزيارات مع أبناء العائلة، المشاركة في تشييع جثمان أحد الأقارب، الخلوة الزوجية، وإفراجات لجنة حسن السلوك التي تقضي بتخفيف ثلث المدة. أما السجين العربي، من نفس الدولة، فمحروم من أكثر هذه الامتيازات، دون أن تكلف الدولة نفسها بإبداء الأسباب.
كل هذا مضافا إلى فجوة كبيرة في معايير المحاكم في فرضها للعقوبات: إذ يتم فرض السجن الفعلي على فلسطينيي الداخل بوتيرة متصاعدة. أما إذا ما تم تجريمهم بمخالفات أمنية، فتُفرض عليهم عقوبات سجن لفترات، تفوق تلك التي تُفرض على اليهود وأضعافها مرات عدة.
في الختام نجدد حبنا وعشقنا للأراض الفلسطينية المحتلة عام 1948، ونسجل جل تقديرنا لأبنائها وسكانها ممن تمسكوا بها وأقاموا فوق ترابها ودافعوا عن عروبتها وفلسطينيتها. كما ونؤكد على أننا لم نُفرق ولن نفرق يوماً ما بين أسير وأسير، فالأسرى قضية جامعة وموحدة غير قابلة للتجزئة أو القسمة، بغض النظر عن الانتماء أو التهمة ومكان السكن والاقامة ، وأسرى الداخل هم جزء أصيل من الحركة الوطنية الأسيرة.
وفي الختام أيضا نبرق أحر التهاني والتبريكات للأسير المحرر "محمود جبارين" ولعائلته ومحبيه ولعموم أبناء شعبنا في المناطق المحتلة عام 1948، ونتمنى على المفاوض والمقاوم الفلسطيني العمل الجاد لإغلاق ملف أسرى 48 وخاصة القدامى منهم والقابعين في سجون الاحتلال منذ سنوات طويلة وعدم تركهم في السجون الإسرائيلية لقضاء كامل مدة محكوميتهم كما حصل اليوم مع الأسير "جبارين" الذي أعتقل في الثامن من تشرين أول/أكتوبر عام 1988 وأفرج عنه اليوم الموافق السابع من تشرين أول/اكتوبر2018، بعد أن أنهى مدة حكمه كاملة والبالغة (30)عاما.
بقلم/عبد الناصر عوني فروانة
أسير محرر ومختص بشؤون الأسرى
عضو المجلس الوطني الفلسطيني