مع القرّاء ... ما بين التشاؤم والتفاؤل

بقلم: هاني المصري

أكثر من مرة استوقفني رجل أو امرأة في الشارع أو في مكان تواجدت فيه، داخل الوطن وخارجه، وأحيانًا في تعليق على "الفيس بوك"، وقالوا لي: نعرف أنك تكتب ما تشعر به، وتنقل ما هو موجود في الواقع، وتتوقع مسار الأحداث استنادًا إلى القدرة على التخيل الذي تملكه، ولكن أرجوك اكذب علينا ولو قليلًا، فنحن بحاجة إلى قليل من الأمل. وهناك من قال لي ومنهم الإنسان العادي والمثقف ورجل الأعمال والسياسي، وحتى بعض الزملاء الكتاب، بأن من يريد أن يعرف ماذا يجري في فلسطين عليه أن يقرأ مقالات هاني المصري، وهذا مديح قد لا أستحقه ولكنه ليس أمرًا نادرًا.
وخلال الأسبوع الماضي، رويت هذه القصص لباحث مميز، فعلق بسرعة، بالفعل معهم حق، فمقالك الأخير أدى إلى تشاؤمي، في حين قال لي رجل أعمال أنه بدأ يبحث عن أعمال خارج فلسطين بعد أن قرأ مقالاتي الأخيرة.
فهل أنا متشائم حقًا؟
الإجابة القاطعة لا، كما يظهر من خلال تركيزي على عناصر القوة والصمود والمقاومة التي سطرها الشعب الفلسطيني منذ مائة عام وحتى الآن، وهو الأمر الذي أبقى القضية الفلسطينية حية رغم كل الأهوال والمؤامرات والأعداء والحروب والدمار والموت التي تعرضت لها، والدليل القاطع عملي المستمر ومواظبتي على الدفاع عن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وعما أؤمن به بدأب يحسدني الكثيرون عليه، كما أنني مؤمن بحتمية انتصار فلسطين ولو بعد حين، لأسباب موضوعية وذاتية، وليس تسليمًا بخرافات وغيبيات.
هناك فرق حاسم بين رؤية الواقع كما هو ودراسة احتمالات تطوره، سواء أكانت مرغوبة أم مكروهة، من أجل الدعوة للتدخل النشط للتأثير عليه وتغييره بالاتجاه الذي نريده، وبين الدعوة للاستسلام له أو القفز عنه، والتسليم بحتمية حدوث المسائل وكأنها قدر لا راد له. فهناك فرق بين النظرة الواعية التي تحذر من الطوفان القادم من أجل أخذ الاحتياطات لتجنبه، أو على الأقل للتقليل من أضراره، وبين من يستسلمون له بدون حراك، بين التشاؤم والتفاؤل والتشاؤل، وبين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.
ما أستنتجه هو ثمرة الجدل بين الفكر والواقع، بحيث لا يحلق الفكر وحده بمعزل عن الواقع، ولا يتم الخضوع للواقع بلا تحليل.
أقول مستندًا إلى قراءة ما يجري على الأرض من وقائع وحقائق استعمارية واستيطانية وعنصرية في ظل الواقعين الفلسطيني والعربي البائسين، وتوقع السيناريوهات المُحتملة أن النكبة الثالثة آتية، وتتمثل بإقامة "إسرائيل الكبرى"، وتهجير المزيد من الفلسطينيين خلال العقد أو العقدين القادمين، أضيف إذا لم نوفر متطلبات منعها، وهي ممكنة، بدليل صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته وإصراره على البقاء وتحقيق طموحاته وأهدافه، وقراءة المتغيرات العربية والإقليمية والدولية التي تسير وإن ببطء لصالح نشوء عالم متعدد الأقطاب، عالميًا وإقليميًا، وهذا يمكن أن يَصْب ضد مصلحة إسرائيل التي راهنت على بريطانيا أولًا وأميركا ثانيًا. وأميركا اليوم في حالة تراجع، إذ أصبح الاقتصاد الأميركي يمثل حوالي 18% من الاقتصاد العالمي بعدما أن كان يشكل 38%.
يمكن تغيير المسار ومنع وقوع النكبة الثالثة إذا توفرت الرؤية والقيادة والإستراتيجية وخطة العمل والإرادة المستعدة لدفع الأثمان المطلوبة.
عندما أرى الواقع وأدعو إلى التعامل معه من أجل تغييره وليس الخضوع له أو القفز عنه، فلا أكون متشائمًا وإنما مستشرفًا للمستقبل الذي لا يأتي من العدم، فالحاضر هو قابلة المستقبل. سنة الحياة هي التغير، ونحن نعيش في عصر التغير السريع، فالذي كان يحتاج إلى سنوات كثيرة يمكن عمله في سنة واحدة، وبمقدور الإنسان أن يقرر مصيره بنفسه إذا وعى الحاضر وآمن بقدرته على الفعل فيه.
ومن انتقادات القرّاء لما أكتبه إصراري على مواصلة الجهود بكل الأشكال لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، من كتابة المقالات والأوراق البحثية، وتنظيم الزيارات لبلدان كثيرة، إلى عقد الاجتماعات والندوات والمؤتمرات، وإصدار البيانات والعرائض، والمشاركة في المظاهرات والحراكات، وذلك لأسباب عدة:
فمن القرّاء من يرى أن الانقسام نعمة وليس نقمة، لأنه ساعد على وجود المقاومة واستمرارها، خصوصًا في غزة، فَلَو كنّا أو استمرينا موحدين لكانت سلطة أوسلو والتزاماته هي المسيطرة على الفلسطينيين أينما كانوا، متناسيًا أن الوحدة المطلوبة لا بد أن تقوم على تغيير مسار أوسلو الذي أوصلنا إلى الكارثة التي نعيش فيها، والذي ارتضى الجميع، بمن فيهم المعارضون له، العمل تحت سقفه، فلا وحدة على أساس تعميم الاستسلام.
ومنهم من يرى استحالة الوحدة، لأن طرفي الانقسام يسيران في خطين متوازيين لن يلتقيا لأسباب أيديولوجية وسياسية ومصلحية، ولتدخلات إسرائيلية وعربية وإخوانية وإقليمية ودولية، متناسيًا أن "فتح" و"حماس" ومختلف الفصائل تغيرت، ليس إلى الحد الكافي، ولكنها تغيرت، وأن كل الإستراتيجيات رغم الاختلافات فيما بينها قد وصلت إلى طريق مسدود، وأن ما يجمع الفلسطينيين كان وأصبح أكثر، إذا استثنينا جماعات مصالح الانقسام والاحتلال، أكبر مما يفرق بكثير.
ومنهم من يرى أن "حماس" مظلومة وعلى حق، ولا وحدة إلا عندما تتمكن من القيادة، لأن "فتح" "خانت وفسدت وكفرت"، مقابل من يرى العكس تمامًا بأنه يجب على "فتح" الاستمرار في القيادة، وأن "حماس" "قوة ظلامية" لا تؤمن بالشراكة ومرتبطة بتنظيم الإخوان الدولي، ومنهم من يبالغ بأنها "صنيعة إسرائيلية وأميركية"، متناسين هؤلاء أن الشراكة التي تتسع للجميع كل بحسب وزنه هي الحل، وأن أكثر من نصف قيادتي "فتح" و"حماس" وآلاف من كوادرهما وأعضائهما وأنصارهما استشهد، ومنهما عشرات آلاف المعتقلين وأضعافهم من الجرحى والمعاقين، وأن الاحتلال لا يميز بين الفلسطينيين، بين "فتح" و"حماس"، وغيرهما، بين "الإرهاب العسكري" و"الإرهاب الديبلوماسي".
ولعل حصار غزة والعدوان المستمر عليها، وإغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، ووقف المساعدات للسلطة، وكل ما تقوم به أميركا وإسرائيل ضد الفلسطينيين يدل على من هو العدو، وعلى ضرورة التفريق بينه وبين الخصم الداخلي، وليس خلط الأوراق إذ لا نعرف أحيانًا العدو من الصديق.
وهناك من يرى أن موقفي محايد أو وسطي لا يريد أن يغضب طرفي الانقسام أو أحدهما، أو يريد أن يميز نفسه من أجل التميز، ولو على حساب الحق والمصلحة الوطنية.          
المثير للغرابة والسخرية أن مقالاتي وآرائي تغضب الكثيريين مثلما تحوز على تأييد الكثيريين، ويكال لها المديح أو الذم من أنصار هذا الطرف إذا وجهت الانتقاد للطرف الآخر، أو العكس، وأحيانًا عديدة يتم الترحيب بفقرة من المقال أو إدانتها، إذ في المرة الأولى تكون من البعض أصبت فيها كبد الحقيقة، وفي المرة الثانية من البعض الآخر جانبت الصواب.
كل ذلك لأن الفكر الفلسطيني بشكل عام يعاني من النظرة الأحادية ومطلق إما معك أو ضدك، إما أسود أو أبيض، لا يرى أن المسائل مركبة وثلاثية أو متعددة الأبعاد، إذ لا يمكن فهمها إذا بُسّطت بشكل مخل. وعندما أقول أنا وغيري، إن الخلاف لا يفسد للود قضية، وإن من حقي الدفاع عن وجهة نظري على اعتبار أن من حقي الاعتقاد بصوابيتها، وأن أرى في نفس الوقت أنها تحتمل الصواب والخطأ، مثلها مثل آراء الآخرين، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة ومصيب دائمًا، ولا أحد من حقه احتكار الدين أو الوطن، فما لله لله، وما للوطن للجميع .
ما ذنبي إذا كانت "فتح" تتحمل المسؤولية عن الانقسام في البداية، لأنها وافقت على اتفاق أوسلو الذي بذر بذور الانقسام من خلال فصل القضية عن الأرض وعن الشعب، وقسم كل منها إلى أقسام، فضلًا عن مثالب وأخطاء كبرى عديدة، وأنها رفضت التسليم عمليًا وكليًا بنجاح "حماس" في الانتخابات التشريعية، كما ظهر حين كلّف الرئيس محمود عباس إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة، وهذا أمر ديمقراطي، بينما لم يسلم حكومته مصادر الحكم، خصوصًا الأمن والمال، وأن "حماس" تتحمل هي الأخرى المسؤولية عن الانقسام عندما نفذت "انقلابًا" لا شيء يبرره، وعندما راهنت على صعود الإخوان المسلمين وربطت مصيرها ومصير الفلسطينيين بمصيرهم.
كيف لا أحمل "فتح" المسؤولية عن استمرار الانقسام وهي والرئيس يصرون على عودة غزة تحت سيطرة السلطة التي تهيمن عليها "فتح"، بدون عرض الشراكة، وكيف لا أحمل "حماس" قسطها من المسؤولية وهي التي جعلت بقاء سيطرتها الانفرادية على غزة الأولوية التي تطغى على أي شيء آخر، بما في ذلك المقاومة التي أصبحت أداة في خدمة السلطة بدلًا من أن تكون العكس، الأمر الذي أوصلنا إلى أن التهدئة الانفرادية أصبحت لها الأولوية عند "حماس" على كل شيء، بما في ذلك الوحدة.
هناك من القرّاء من يرى أن الحركة الوطنية الفلسطينية بكل أجنحتها قد خانت وفسدت أو أعطت كل ما عندها، ولن يقوم لأي بديل قائمة ما لم تستكمل عملية السقوط والانهيار، لذلك يحب النأي لكل مخلص أو باحث عن الخلاص أو البديل عن الوضع الراهن، والاستعداد أو انتظار المستقبل، ولو عن طريق الدخول من دوامة من الحوار والقراءة التجريدية المحلقة بالسماء لتأكيد الانفصال عن الواقع وانتظارًا لمستقبل منشود أو مأمول.
أكرر الحاضر رحم المستقبل، وإن قاع الانحدار لا أحد يعرف إلى أين يصل، وإن البديل عن الوضع القائم يمكن أن يكون أسوأ منه، وإذا لم يتم الانهماك بمهمات الحاضر واستيعاب دروس الماضي فالمستقبل سيكون أسوأ بالتأكيد. وتذكروا أننا كلما قلنا إن الوضع الحالي أسوأ وضع يمكن أن نصل إليه لنفاجأ بوصولنا إلى ما هو أسوأ منه.
رغم كل ما يدعو إلى الإحباط واليأس، هناك ما يمكن الاستناد إليه، ويدعو إلى التفاؤل، فهناك إرهاصات عديدة منتشرة أينما تواجد الشعب الفلسطيني تبحث عن الخلاص، لم تنضج ولكنها تسير في هذا الاتجاه، كما أن الحركة القائمة وإن كانت عاجزة عن الانتصار وغير قادرة على إحباط المؤامرات، لكنها لا تزال ترفض الانخراط في عملية تصفية القضية، وتملك هامشًا للممانعة، بدليل الحرب الأميركية الإسرائيلية بتواطؤ أوساط عربية على كل الأطراف الفلسطينية، وهذا يعني أن لا مفر من استنفاد الوضع الراهن حتى نهايته حتى ينضج البديل المناسب، أي لا بد من "اللعب بالمقصقص حتي يأتي الطيار".
وللحديث مع القرّاء بقية.
بقلم/ هاني المصري