الصورة التي اختزنتها الذاكرة منذ التقيته قبل سنوات طويلة لم تتغير، بقيت بألوانها الهادئة المجردة من الذات والمعبرة عن الهم الوطني بأدق تفاصيله، لم تتمكن التقلبات التي أصابت الوطن من اختراق حاجز الهدوء المتجذر فيه، كأنه أراد أن يصنع منه ثباته في وجه اللامنطق، يغضب بهدوء ضمن معادلة تحكمها المصلحة الوطنية، لم أسمعه يوماً يتغنى بماضيه ولم ينكفيء يوماً ليدافع عن أفكار فصيله وكأنها مسلمات لا يدنوها شك، جعل من الوطن بوصلة حياته فصدح برأيه دون خوف أو وجل، لم يهرول كما فعل الكثير وراء مغانم السلطة، ظل بعيداً عن بريقها الوهاج قريباً من الناس وهمومهم.
رحل الصديق رأفت النجار "ابو عثمان" وترك تاريخاً يتحدث عنه، ذلك التاريخ الذي عرفناه قبل أن نعرف صاحبه، لم يكن الراوي له ولم يستحضر شيئاً منه في جلساته، عرفناه مناضلاً قبل أن تحجب عنا المسميات والألقاب عين الحقيقة، وقبل أن يعكف من لا تاريخ لهم على سرد بطولاتهم الوهمية، عرفناه قائداً في صفوف الجبهة الشعبية في السنوات الأكثر انتشاراً لها بين جماهير الشعب الفلسطيني، في حقبة كانت التضحية عنواناً لها يوم كانت الثورة الفلسطينية تحفر بفعلها معالم الطريق بعد النكسة.
رحل الرجل الصادق مع ذاته المتصالح معها، لم يسمح قط لأدوات النفاق والمداهنة أن تتسلل إليه، حرص دوماً على أن يكون في المكان الذي يجب أن يكون فيه من يحمل هموم وشجون شعبه، أن يكون للجماهير أقرب منه للسلطان، حافظ على بساطته وجعل منها جسراً في تواصله اليومي مع الناس، كان من الطبيعي لمن يحمل هذا الارث أن يعطيه الشعب ثقته في انتخابات المجلس التشريعي التي خاض غمارها دون الاتكاء المطلق على الفصيل، فاز بمقعد في المجلس التشريعي عن دائرة محافظة خان يونس بجدارة وحمل معه آمال وطموحات ناخبيه، لم يخذلهم يوماً ولم يتقاعس عن خدمتهم بقدر استطاعته.
رحلت يا صديقي وصورتك بذات الروعة التي عرفك الناس بها، الصورة التي حافظت على تناسق ألوانها وجمعت فيها مكونات القائد المناضل صاحب الرأي الحر الذي لا يقبل إلا أن يكون في قالبه الوطني، والانسان المتواضع الذي شيد بهدوئه وصدق انتمائه جسر محبته.. يغيبك الموت جسداً ويبقيك روحاً محملة بالمحبة.. رحمك الله ياصديقي.
د. أسامه الفرا