مساء الثامن والعشرين من شهر سبتمبر من العام الجاري ضرب زلزال بقوة 7.5 على مقياس ريختر جزيرة سولاويسي الأندونيسية أعقبه موجات تسونامي أدت إلى مقتل ما يزيد عن ألفي شخص وفُقِد ما يُقارب خمسة آلاف شخص يُعتقد أنهم في عداد الأموات وجُرِح عشرين ألف معظمهم بإصابات خطرة بالإضافة لدمار واسع طال أكثر من 66 ألف منزل وشُرِّد ما يقارب 70 ألف مواطن أندونيسي
كفلسطيني عاصر العدوان الإسرائيلي أكثر من مرة وعاش معاناة الفقد والتدمير، تطوعت للذهاب للمنطقة المنكوبة للمساهمة في أعمال الإغاثة ومحاولة تسليط الضوء على الكارثة وأبعادها، وصلت في الساعات الأولى التي تلت الزلزال، كانت الطرق ما تزال مقطوعة والمطار في بالو مغلق، اضطررت لأخذ طائرتين على التوالي انطلاقا من جاكرتا للوصول إلى أقرب مدينة للمنطقة المنكوبة ثم السير براً بواسطة سيارة لمدة عشر ساعات.
زميلي الإندونيسي كان يحاول تأخير ذهابي للمنطقة بذريعة أن الطريق طويلة ومازال خطر الموجات الارتدادية قائم، بالإضافة لانقطاع الكهرباء والماء عن المنطقة والطعام نادر، ولا مكان للمبيت، أخبرت زميلي أني من غزة وأني معتاد على ما يقول، نسى همه ومأساة الموت في بلاده وطار فرحا ًبي وقال لا أصدق أني أتحدث مع فلسطيني من غزة، صافحني مرة أخرى ولكن هذه المرة بحرارة كبيرة وعانقني أخذ صورة تذكارية وأرسلها لزوجته افتخاراً بوجوده مع فلسطيني، ثم قال نذهب غداً إلى بالو أنت تستطيع العيش والصمود في مثل هذه الأجواء.
مشاعر زميلي الأندونيسي وفرحته بفلسطينيتي زادت صوابية رأي بضرورة المشاركة في أعمال الإغاثة، فإلى جانب الواجب الإنساني المترتب على الكارثة، وواجب الأخوة كان نوع من رد الدين والجميل لهذا البلد الذي طالما قصدته طلباً لدعم الشعب المحاصر في قطاع غزة، ولم يردني يوماً خائباً بل كان حتى أفقر فقراء هذا الشعب يقتطعون من قوت يومهم لأجل فلسطين.
منذ حطّت رحالي في المدينة المدمرة ورائحة الموت تنبعث من تحت الركام، كنت برفقة فرق الإنقاذ حين كانت تنتشل جثث القتلى من تحت الأنقاض، لن أنسى ما حييت ذلك الرجل الذي كان يُرابط أمام حطام منزله منذ أيام ويطالب فرق الإنقاذ بالتنقيب عن زوجته وأطفاله، كانت الدموع تُغالبه فيما تُسابق فرق الإنقاذ الزمن بحثا عن ناجين، تسارعت أعمال البحث وكانت النتيجة للأسف مزيداً من جثث الضحايا الذين حصد أرواحهم الزلزال المدمر.
تنقلت بين ركام البيوت المدمرة وشاهدت الأطفال في الخيام ممن أضحوا أيتام، هربوا بين الجبال وأقاموا بعض الخيام يحاولون بها اتقاء أشعة الشمس دون أن تمنحهم الخيام الخصوصية، ففي تلك الزاوية شاهدت رجلاً يستحم في العراء وسط أربع أعمدة من الخشب لفتهم قطعة من النايلون غير الشفاف، وهناك طفلة صغيرة يقوم والدها بتحميمها وسط الشارع وأمام المارة، يفترش النازحون الأرض مذهولون من التجربة التي مروا بها، غاضبون لتأخر المساعدات في حينه، ينتظرون بارقة أمل ويأملون قدوم من وما يسد حاجتهم.
حين تسألهم عن احتياجاتهم لن يُخبروك نريد أموالاً وبيتا جديداً كل ما يطمحون ويتطلعون له طعام يقيهم الجوع، وماء يروي عطش أطفالهم، ومنازل مؤقتة تمنحهم الخصوصية وتقيهم حر الصيف، وحمامات عامة مع شبكة صرف صحي، ورعاية صحية تُنقذ الأجنة وتحمي النساء الحوامل، وتُسعف الجرحى وتحد من انتشار الأمراض المعدية.
عقب انتهاء زيارتي للجزيرة المنكوبة قمت بزيارة جزيرة لومبوك والتي كان قد ضربها زلزال سابق قبل شهرين حصد 400 ضحية وخلف الآلاف من الجرحى، وتسبب في دمار هائل في البيوت، الأمر الذي أدى إلى نزوح 70 ألف مواطن عن منازلهم التي دمرها الزلزال، العائلات منهكة مستنزفة والوعود التي تم اطلاقها عقب الزلزال بالتعويض والبناء لم تحصل حتى كتابة هذه الكلمات، فما زال الأطفال يدرسون في مدارس مؤقتة من النايلون أشبه بالحمامات الزراعية لا تصلح للبقاء تحت سقفها دقيقة ناهيك عن الدراسة بها يوم كامل، يفتقرون للمياه وينتظرون عربات مياه الهلال الأحمر الأندونيسي بفارغ الصبر كي تصلهم، احتياجاتهم لا تختلف كثيراً عن احتياجات أهالي منطقة جزيرة سولاويسي وعل الاحتياج فيها بنفس قدر أهمية الاحتياج ببالو حتى وإن كان هنالك تباين في أعداد القتلى الذين حصدهم الزلزالين.
مازالت الموجات الارتدادية من الزلازل تضرب المنطقة الأمر الذي يُسبب الذعر والقلق وسط الإندونيسيين خصوصاً الأطفال، ويُبقيهم هاربون في مناطق العراء والمرتفعات دون عودة لمناطقهم الأمر الذي يستدعي تدخلاً عاجلا من قبل المؤسسات الإنسانية العاملة في المجال الإنساني بشكل عام والمؤسسات الإنسانية من العالم الإسلامي بشكل خاص، لا يجب أن يُترك الإندونيسيين يواجهون الكارثة وحدهم أو يتم افساح المجال لبعض الأيدي الخفية أن تخترقهم تحت مظلة المساعدات وأقصد هنا ما يسمي اسرائيل.
أثناء عودتي من جاكرتا جاورتني على متن الطائرة إسرائيلية تعمل لصالح ما يُسمى ISRAAID وتعني بالعربية المساعدات الإسرائيلية، من الواضح أنها استطاعت الدخول لإندونيسيا بجواز سفر لجنسية أخرى تحملها، وقد كانت منهمكة في اعداد تقرير الزيارة بما فيها فواتير مصروفاتها الشخصية، كنت قد تنبهت لجنسيتها من الشعار الذي يحمل علم إسرائيل، الطائرة كانت مزودة بخدمة الانترنت أجريت بحثاً سريعا عن المؤسسة وجدتُ أنها قد أعلنت بأنها ستُرسل فريق انقاذ وستقدم المساعدات للضحايا في اندونيسيا، وتفاجأت بوجود عمل في الأردن لهم، الشعب الإندونيسي لم ولن يقبل مساعدة من أي مؤسسة إسرائيلية ففلسطين بالنسبة له قضية مقدسة وإسرائيل كيان غاصب، لا شيء له قيمة في إندونيسيا كقيمة الفلسطيني، ولن تكون بوابة الإغاثة مدخل إسرائيل لقلوب الاندونيسيين، صحيح أن الإنسانية مظلة الجميع وأن الأديان قد تفرقنا والإنسانية تجمعنا، إلا أن دولة قامت على أجساد الضحايا وعذابات الأسرى وسرقة أرض الغير لا يمكن أن تكون خدماتها إنسانية عابرة ولا يمكن لحُرّ أن يقبل مساعدة من يد ملطخة بدماء الأبرياء وتقتات على وجع الأطفال.
بقلم/ محمد حسنة