محزن الوضع الفلسطيني فأينما، وفي أي زاوية تقع عيناك تجد خراباً. الشعب الفلسطيني تحول إلى جماعات تتبعثر هويتها، وتتعدد اهتماماتها. ثمة جماعة في الضفة، وأخرى في القدس، وثالثة في غزة ورابعة في أراضي 1948، أما الشتات فإنه شتات يعيش على أحلام صغيرة.
هكذا اشتغلت إسرائيل، وهكذا استجاب الحال الفلسطيني، على نحو غير مقصود بالنسبة للبعض، وعلى نحو مقصود، وفق الحسابات الفئوية التي تقدم أيديولوجيات، فوق وطنية. الوضع العربي بائس ولا يبشر الأفق القريب بإمكانية تعافي الأمة العربية، لا بل هي لا تزال تتلقى وتنتظر المزيد من الضربات القاتلة وأمة إسلامية تهتم بإسلاميتها أكثر من اهتمامها بالوطنية الفلسطينية.
أما العالم فهو مشغول بصراعاته، وتناقضاته، ويبحث كل عن مصالحه في ظل أوضاع مضطربة، ومتحولة نحو نظام عالمي جديد، يحتاج إلى كثير من الوقت، وربما الكثير من الحروب حتى يستقر على حال غير هذا الحال.
القضية الفلسطينية تحظى باهتمام وتضامن إجماعي، ما عدا الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الأذيال الصغيرة، لكن هذا الاهتمام والتضامن لا يرقى إلى مستوى التحدّي الصادر عن سياسات الحلف الأميركي الإسرائيلي، فمعظم الفاعلين الدوليين، إما عاجزون، أو متواطئون.
يحتاج الفلسطينيون إلى إعادة النظر في تجربتهم وفي أحوالهم، لا نتوقع أن يكون الفلسطينيون أمام قيادة ثورية، تقلب الأوضاع رأساً على عقب وتستعيد أمجاد الماضي، فالوقائع الراسخة، غير قابلة للتغيير الشامل والجذري. ليس من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولكن يمكن أن يستعيد الفلسطينيون بعضاً من أسباب القوة التي فقدوها.
من المرجح أن تبقى السلطة سلطة، بغض النظر عن طبيعتها وصلاحياتها وقدراتها، ولكن من المتوقع أيضاً أن ينجح التحالف الأميركي الإسرائيلي في خلق الوقائع المناسبة، لإقامة كيان هزيل في قطاع غزة، أو لعلّنا نشير الى أن هذا الهدف هو من بين الأهداف التي يسعى إليها التحالف الأميركي.
ولكن هل يمكن إعادة صياغة منظمة التحرير الفلسطينية ودورها وأدواتها حتى لو كانت أشكال النضال مختلفة عما سبق، ونحو مواصلة اعتماد الكفاح الشعبي السلمي؟
إن واقع حال أدوات الفعل هي التي تقرر بالإضافة إلى عوامل أخرى أشكال النضال، دون أن تتجاهل أن النضال السلمي ليس نزهة ولا هو شكل من أشكال الاحتفال أو الخضوع.
وسواء تمت المصالحة، واستعاد الفلسطينيون وحدتهم، أم ظلوا سادرين في حساباتهم الفئوية التي تحظى بالأولوية على الحسابات الوطنية، فإن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة بناء استراتيجيتها الوطنية الجامعة ستظل مسألة تحظى بالأولوية.
منظمة التحرير الفلسطينية لم تكن فقط مجلساً وطنياً، مهما كانت تركيبته ولم تكن مجرد مجلس مركزي، أو لجنة تنفيذية تقترب أو تبتعد اجتماعاتها. منظمة التحرير هي إطار ائتلافي جامع، يعبر عن الهوية الوطنية الواحدة والموحدة للشعب الفلسطيني الذي تحظى بتمثيله حصرياً.
ومنظمة التحرير هي مبنى كامل، تعتمد على أذرع فاعلة منتشرة في مختلف أنحاء المعمورة، من خلال دوائر فاعلة. منظمة التحرير هي الاتحاد العام لطلبة فلسطين والاتحاد العام لعمال فلسطين والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، واتحاد الكتّاب والصحافيين، والمهندسين والفنانين. إنها دائرة الإعلام والثقافة، والدائرة المالية والعسكرية، ودائرة اللاجئين والعلاقات الخارجية وإنها مبنى ديمقراطي حيث جرى بناء كل هذه الأدوات عبر انتخابات ديمقراطية.
منظمة التحرير هي فعل شعبي على الأرض، تقوم به الاتحادات والنقابات والمنظمات الشعبية، تتحرك على مساحة العالم كله للتعريف بالقضية الفلسطينية وحشد الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني.
منظمة التحرير هي التي أنجبت عشرات الكوادر والقيادات التي تقف على رأس العمل السياسي الفلسطيني اليوم.
ومنظمة التحرير هي تلك القيادة التي تحرك كل الفلسطينيين أينما كانوا وهي مكاتب وسفارات، فاعلة تنشغل بالعمل الشعبي والتضامني والتوعوي أكثر من انشغالها بعلاقات دبلوماسية جامدة وتحول كوادرها إلى مجرد أدوات بيروقراطية، تتقن انتقاء ملابسها التي تناسب وضعيتها الجديدة.
منظمة التحرير الفلسطينية هي كل هذا وأكثر من هذا، فهي قائدة نضال الشعب الفلسطيني في مختلف أنحاء العالم، بينما من يتبصر حال الفلسطينيين اليوم فإنه سيجد نفسه أمام نقل الصراعات الداخلية إلى العالم الخارجي عبر واجهات مختلفة، وخطابات مختلفة.
هذه هي المنظمة التي يحتاجها الشعب الفلسطيني، فإذا وقعت المصالحة، فإن إعادة بناء المنظمة ستكون طريقاً، وخطوة أولى أساسية نحو خوض الصراع دفاعاً عن الحقوق والقضية، على نحو أكثر قوة وأكثر فعالية. أما إذا حصل واستمر الوضع على حاله من الانقسام، فإن الطرف الذي يرى في نفسه أم الولد وأباه، فبإمكانه أن يبادر إلى ذلك رغم كل الخلافات القائمة، وحينها فإن النجاح في مثل هذه العملية من شأنه أن يحرج الفصائل الأخرى، وأن يحاصر مواقفها، وربما يجعلها تتوسل الانخراط في المنظمة.
هل هذا ممكن؟ نعم هذا ممكن وهو أسهل من معالجة وضع السلطة الفلسطينية نظراً لما لها من مكانة وارتباطات، لكن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية والى فكر سياسي جديد والى أدوات مستعدة لأن تغادر مواقعها الحالية.
بقلم/ طلال عوكل