لسنا بصدد محاكمة ومحاسبة أي نظام عربي، لا النظام في السعودية، ولا أي نظام عربي آخر. وطالما نرفض تاريخياً كفلسطينيين التدخل في شؤوننا الداخلية، بالقدر الذي يؤثر على خياراتنا الأساسية، فإننا ولو كنا جزءاً من الأمة العربية، فإننا لا نملك الحق في محاكمة الآخرين، أو التدخل في خياراتهم وشؤونهم الداخلية. أرجو أن لا يتعرض لنا المزايدون على القومية العربية، فإذا لم يقرر أي مجتمع عربي خياراته، فإن علماء وحكماء المجتمعات العربية الأخرى، لا يستطيعون تحديد خيارات الآخرين. بل أعتقد أن التدخل المتطرف أحياناً إنما يصب في خانة التعبير عن موقف أو غضب شخصي أو أنه محاولة للتحريض وتعبير عن حالة انحياز في ضوء الاستقطابات الجارية في الإقليم والمنطقة عموماً.
لا نتدخل في شؤون الآخرين، من حيث المبدأ، ولكن قد يكون في التزام هذا المبدأ شيء من الضعف، لأننا نتمنّى أن تكون لدينا القدرة على أن نغير في الواقع. لكنا فعلنا ذلك منذ زمن، ولكنا فعلنا ذلك في المجتمعات التي تحكمها أنظمة سياسية معادية للشعب الفلسطيني وحقوقه.
حدود القوة الفاعلة في التغيير، لا يحددها المال وحده، وإلاّ كانت السعودية واحدة من الدول المؤثرة على المستوى الدولي، ولا يحددها أيضاً امتلاك الإرادة للتغيير، وإنما تحددها عوامل كثيرة تصنع ما يمكن اعتباره مجازاً "القوة المطلقة"، التي تملك كل وسائل الفعل والتأثير، وإرادة التغيير التي تحققها رؤية المصالح والاستراتيجيات.
من واقع الحال العربي، الذي تتعرض فيه الدول القومية للتدمير والتقسيم وإعادة صياغة خارطة المنطقة، وفقاً لمصالح خارجية، فإن السعودية شأنها شأن بقية الدول العربية التي تعرضت لمثل هذه التدخلات والمؤامرات. السعودية وغيرها مما تبقى من النظام العربي الرسمي ليست في مأمن من الشياطين، وكما يقول المثل "مطرح ما بتأمن خاف". رأس الحربة في هذه المخططات التدميرية، التقسيمية هو التحالف الأميركي الإسرائيلي. مأساة كبرى إن كان هناك من لا يزال يرى هذه الحقيقة، ويعتقد أن هذا التحالف يمكن أن يوفر الحماية أو المساعدة في مواجهة ما تتعرض له المنطقة من مخاطر.
السعودية تتعرض هذه الأيام لهجمة عالمية شرسة على خلفية الجريمة التي تم ارتكابها بحق الصحافي السعودي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في اسطنبول.
الكل يحاول أن يأخذ حصته من الأموال، والمقدرات التي تحوز عليها السعودية، التي تقف على رأس الدول المصدرة للنفط. يحصل ذلك من خلال عملية ابتزاز رهيبة، تمارسها العديد من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. حاول ترامب التلاعب بالقضية والمعلومات التي تتسرب من هنا وهناك، بغرض استكمال دوره في ابتزاز السعودية، كان ترامب قد غرد أكثر من مرة على "تويتر"، أنه ينتظر من السعودية دفع تكاليف حماية النظام السعودي. إسرائيل هي الأخرى تدّعي ذلك وأكثر من ذلك حين يصرح نتنياهو أنه هو الذي يحمي الأمن الأوروبي، في محاولة للتأثير على مواقفها تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وقضايا الحقوق.
مرة بدا ترامب وكأنه يدافع عن السعودية، ويتبنى روايتها الرسمية غير المكتملة، ومرة تراه يهدد باتخاذ عقوبات بحق النظام السعودي، ولأنه يتعرض للحرج فإنه يحيل الأمر إلى الكونغرس.
المنتدى الاقتصادي الذي انعقد في السعودية تعرض إلى حملة مقاطعة من صندوق النقد الدولي وعدد وازن من الدول الأوروبية. بعض المستثمرين في قضية خاشقجي اتبعوا تكتيكات أخرى، إذ لم يقدموا كل ما لديهم من معلومات يملكونها، حتى يمكن إبرام صفقة مع النظام السعودي فيما احتفظوا به من معلومات هي أكثر أهمية من تلك التي قاموا بنشرها وتداولها.
اليوم السعودية تبدو بفعل فاعل وكأنها المسؤولة عن تهديد الأمن والاستقرار العالمي، أو كأنها النظام الوحيد الذي يرتكب مثل هذه الجرائم.
يتناسى العالم المجرم، أنه يكاد لا يوجد نظام بما في ذلك الذين يدعون حرصهم على الديمقراطية وحقوق الإنسان يرتكبون جرائم بالجملة. لماذا لم يهتز العالم عندما يقتل آلاف الفلسطينيين أطفالاً ونساءً وشيوخاً، صحافيين، ومسعفين، وطلاب سلام؟
جمال خاشقجي مواطن سعودي، عادي، لا يحمل الجنسية الأميركية حتى تفتح الولايات المتحدة ذراعيها مدعية الحرص على مواطنيها، وعلى حقوق الإنسان، وهو صحافي عادي، ليس من مشاهير، وأعلام الصحافة، ودعاة السلام، والمدافعين عن حرية الرأي. وبغض النظر، فإنه لا يستحق مثل هذه العقوبة الشنيعة لمجرد اعتباره معارضاً بريشة ناعمة.
كان من الخطأ الاستراتيجي أن يقدم للولايات المتحدة، خلال زيارة ترامب، كل هذه المليارات من الدولارات والاستثمارات التي كان يمكن توظيفها في الأمة العربية، لكي يحظى النظام السعودي بالأمان والاستقرار.
يبدو أن الولايات المتحدة قد اتخذت قراراً بتجفيف موارد السعودية ومن يناصر السعودية، ويملك بعض المال والثروة، ولذلك فإن صياغة الأولويات والتحالفات، والاستراتيجيات، إنما تستهدف استنزاف أموال العرب. تستطيع السعودية، بتكاتف العرب أن ترد على كل هؤلاء الطامعين، فتذكرهم بما يرتكبونه من جرائم بحق الفلسطينيين والعرب، ومنظومة الجماعة الدولية، ولكنها في البداية لا بد أن تحدد بوضوح مختلف أعدائها وأعداء الأمة العربية، وهم مرة أخرى، التحالف الأميركي الإسرائيلي.
بقلم/ طلال عوكل