لا اعرف كيف عرف أبناء جيلي منظمة التحرير، أظن بالنظر للخلف إننا ولدنا والمنظمة جزء منا، بمعنى لا توجد لحظة محددة يمكن أن يقول المرء انه معها سمع أو عرف بالمنظمة، ليس لأنها وجدت قبل أن نولد نحن في مطالع سبعينيات القرن الماضي، إذ إن ثمة الكثير من الأشياء وجدت قبل أن نولد لكننا نعرف تاريخ وعينا فيها، بل لأن المنظمة صارت ومنذ وضعت برامجها وأهدافها خيمة الشعب الفلسطيني وبوتقة تقاتل وتطور هويته، مثلا ارتبطت في وعينا بوجود الاحتلال وجنوده المدججين بالسلاح الذين يغيظهم هتافنا تأييدا المنظمة، كان هتافنا الأسير في أزقة المخيم وخلال التظاهرات التي لم تكن تتوقف «بي ال او، إسرائيل نو»، وعلى سجيتنا كنا ندرك غضب الجنود. كنا نخبط بغضب على حقائبنا المدرسية المصنوعة من الجلد ونرفع عقيرتنا بالهاتف وكان الجنود يصابون بالجنون لمجرد سماع PLO. حتى في الأيام العادية وفيما نكون نلهو في أزقة المخيم وتمر دورية للجيش الإسرائيلي كنا نصرخ في وجوههم باسم المنظمة ونهرب، كان مجرد سماع جنود الدورية لـPLO كفيلا يجعلهم يركضون حولنا لإلقاء القبض علينا، كنا أطفالا تشكل وعينا حول التصادم مع الاحتلال بالمنظمة، ودون أن يلقننا أحد ذلك ودون أن نقرأه في كتاب أدركنا ان منظمة التحرير هي هويتنا. أنها التي تكيد الجنود وتخرجهم عن طوعهم. وبالقدر الذي بتنا مع الوقت ندرك أن المنظمة تشكل النقيض الكامل لهؤلاء الجنود بتنا أيضا ندرك أنها التعبير الحقيقي عنا، لذا فإن شعار منظمة التحرير تمثلني ليس شعارا بل تعبير عن ارتباط وكينونة.
يبدو هذا جزءا من وعي ذاتي بمنظمة التحرير بقدر ما هي إطار جامع فهي تجسيد ذاتي لكل فرد. وبالعودة إلى عالم الطفولة ومرحلة التكوين الأولي فإن الجنود بالمقابل ربما لم يكونوا يستطيعون تقديم تبريرات كبيرة لملاحقتهم للأطفال في الأزقة لمجرد انهم يهتفون باسم المنظمة لكنهم كانوا مثلهم يعرفون ماذا تعني منظمة التحرير، أنها النقيض الوجودي لوجودهم هنا، وعليه كانت تتفاعل تلك الملاحقات وتتزايد مع الوقت. بالنسبة لي ومن المؤكد بالنسبة لجيلي فإن الأمر كان وظل وسيبقى جزءا من وجودنا. هذه المنظمة التي ارتبط وجودنا بها. هي من أعطت الطفل الذي كنته المقدرة والجرأة لمواجهة الجنود المدججين بالسلاح، أنها من أعطتني النشوة والإحساس بالنشوة وأنا أتحدى الجنود. الشعور بالسعادة وهم يغضبون. لم يكن الأمر تسلية مع انه لابد من القول إن الطفولة عالم لا يحتكم لمنطقنا بل له عالمه الخاص، لكنها المنظمة من أعطت الثقة للطفل الذي كنته بأن هؤلاء الجنود ضعفاء أمام قوة الكلمة الفلسطينية. بذلك كنا نترك لهونا ولعبنا وكرتنا وبنانيرنا على الأرض ونلحق بالجنود لكي ننهال عليهم بالغضب الذي كانت منظمة التحرير تنزله عليهم لهذا فإننا كنا أقوياء رغم طفولتنا وكان غضب الجنود وقوة وقع اسم المنظمة عليهم هو ما يمدنا بالشجاعة، بذلك فمنظمة التحرير تمثلني، لم تمثلني بقرار ولم تمثلني بإرادة فوقية، ولم أقرر أنها ستمثلني برغبة ميكانيكية. بل وجدتها تمثلني بالفطرة لأنها جزء مني ومن وعي ومن حلمي.
كانت المنظمة وكان رموزها وقادتها من ارتبطوا بهذا الوعي، كان تبني الأسماء الحركية لقادة العمل الوطني بكافة توجهاتهم يشكل جزءا من التحدي أيضا، فكنت في الحارة أو في السجن تجد أترابك قد أطلقوا على أنفسهم أسماء هؤلاء القادة، كانت حولك صورة أخرى للعالم الذي يصوغ عالمك الأكبر عبر مؤسسة الشعب الفلسطيني الجامعة، كان هناك أبو ياسر وأبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد وأبو مازن وأبو الهول وأبو الميس وأبو غسان، الأسماء التي صنعت التاريخ الوطني، وأيضا كان تبنيها يشكل نوعا من التحدي بجانب انه تعبير عن الاعتزاز والانتماء، بكلمة أخرى كان كل تفصيل يتعلق بالمنظمة يعني الكثير وله الكثير من الدلالات، هذا بعيدا عن الشرح والتعليل وبعيدا عن بلاغة القول أو تحليل التاريخ.
من المؤكد أن الوعي الفردي وأنا أعاود الحفر في الذاكرة أن يلامس هذا التعلق بياسر عرفات وقادة الحركة الوطنية، لم يرتبط شيء بوعينا أكثر من ياسر عرفات، ويصح القول إنه لا يمكن تصور التاريخ الفلسطيني الحديث دون ياسر عرفات، وبالطبع لا يوجد فلسطيني لا يعرفه أو لا يملك قدرا وافيا من المعرفة عن حياته واستشهاده، كانت صورته تهمة، ونطق اسمع تهمه. وكان الجنود أول شيء يفعلونه حين يعتقلوننا ونحن أطفال وبعد ذلك عندما كنا شبانا ان يطلبوا منا ان نسب ياسر عرفات، وكنا نرفض، وكانوا يضربوننا ونرفض. عرفات شيء مقدس. عرفات جزء منا أيضا. ومنظمة التحرير تمثلني لأن هؤلاء القادة العظام من أوجدوها، وهي فلسطين التي نطمح لها. ومنا المعنوي بعبارة درويش.
كنت اعرف كلمة منظمة بالعبرية حين لم اكن قد تجاوزت العاشرة وأنا لا اعرف تلك اللغة حتى الآن، ربما في نشرات الأخبار أو مقابلات المسؤولين الإسرائيليين لم تكن كلمة أكثر من «اشف» تتردد، وأيضا لا أتذكر كيف عرفت ان الكلمة تعني منظمة التحرير. كان مجرد ذكرها يعني ان مذيع النشرة يتحدث عنا. هكذا كنت احس في ذلك الزمن الذي لم يكن التلفاز يأتي لنا إلا بثلاث قنوات. وكانت كلمة أخرى ترد لصيقة لها هي «خبلانيم» ولكنها تعني مخربا أي فدائيا. المنظمة ترتبط ليس بكل ذلك بل أيضا بالحلم الفلسطيني مهما تبدلت الظروف وتغيرت الأحوال. «المنظمة تمثلني» لأنني لا أجد تعبيرا عن حلم الوطني أكثر صدقا وأقرب إلى الروح من الشعارات التي ترفعها المنظمة، ومع تبدل العالم ظلت المنظمة المكان الأكثر أمنا لحماية الحلم، قد تكون وقعت اتفاقيات وقد يقول البعض اعترفت وقد تكون ناورت لكنها فعلت كل ذلك من أجل حراسة الحلم ولم تقبل يوما أن تساوم عليه، تجتهد تحاور لكنها تفعل كل ذلك من أجل الحلم الفلسطيني المقدس. لكل الماضي والحاضر والمستقبل المنظمة تمثلني.
بقلم/ عاطف أبو سيف