ما بين وعد بلفور الصادر في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 وبين قانون القومية الصادر في التاسع عشر من تموز 2018 توجد رابطة النتيجة بالمقدمة ، فقانون القومية جاء نتيجة حتمية لوعد بلفور وإن كان الفارق الزمني بينهما مائة عام وعام ، وإذا كان وعد بلفور هو مجرد وعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، فإنّ قانون القومية جاء استكمالاً وإنجازاً لهذا الوطن القومي ، وإذا كان وعد بلفور صدر عن دولة استعمارية لا تملك حق التصرف بأراضي الغير وكانت تهيء لاستعمارها والانتداب عليها ، فإنّ قانون القومية صدر عن جهة سيطرت سيطرة تامة على الأرض التي وعـِدت بها ، فاستكملت أركان وجودها ، أرضٌ وشعبٌ وسيادة ٌ ، وأصبحت حرة التصرف كونها تحولت من عصابات مسلحة احتلت أرض غيرها لتصبح دولة ذات سيادة وعضواً في المجتمع الدولي ( هيئة الأمم المتحدة ) ، ثم لتقبل دولة ضمن إقليم منطقة الشرق الأوسط بعد حرب حزيران عام 1967 ، ثم ليعترف بها عربياً بعد حرب تشرين الأول عام 1973 نتيجة معاهدة السلام مع مصر ، وتحصل بعدها على اعتراف فلسطيني رسمي كشرط لتوقيع اتفاق أوسلو ، ويأتي اعتراف الأردن بها في معاهدة وادي عربة كتحصيل حاصل لما كانت عليه علاقاتها السرية مع النظام الأردني ، وبعد أن أصبح التطبيع العربي معها أمراً واقعاً تنفيذاً لمبادرة السلام العربية ، بعد كل ذلك تستكمل خصوصيتها بأنها الوطن القومي للشعب اليهودي ، فتصدر قانونها الأساسي في 19/تموز /2018 والذي عـٌرف منذ صدوره بقانون القومية .
إنً التعامل مع قانون القومية يضعنا أمام سؤال هام جداً ، وهوما هي صفة الجهة التي أصدرت قانون القومية ؟ لأنه بمعرفة صفة الجهة التي أصدرته يمكننا من التعامل معه بشكل صحيح ، وبكل أسف نختلف فلسطينياُ على صفة الجهة التي أصدرته ، هل هي دولة ذات سيادة ؟،أم هي قوات غازية تحتل أرضنا كل أرضنا الفلسطينية ؟
فالبعض الفلسطيني يرى أنّ الجهة المصدرة لقانون القومية هي دولة ذات سيادة ، فلذلك فأنّ تعامله مع قانون القومية كان في إطار الشرعية الدولية الذي يتطلب منه تقديم الشكاوي والاحتجاجات لدى المحافل الدولية بعد الشجب والاستنكار والإدانة .
وبعضٌ فلسطيني آخر تمثل بأعضاء الكنيست الفلسطينيين أو ما يسمون بالأعضاء العرب في الكنيست الصهيوني والممثلين للأحزاب العربية الفلسطينية في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948 رفضوا هذا القانون وعبروا عن رفضهم بالمظاهرات الاحتجاجية وتقديم شكوى باسمهم إلى محكمة العدل العليا لدى الاحتلال الصهيوني ، بينما رأى قسم من أبناء شعبنا الفلسطيني بضرورة الرفض المطلق لهذا القانون لأنه صادر عن قوة احتلال تسعى لإلغاء الهوية الوطنية الفلسطينية .
على حين أنّ معظم الفلسطينيين وجـٌلهم من اللاجئين الفلسطينيين يرون أنّ الجهة التي أصدرت هذا القانون هي قوة احتلال تسعى إلى شطب قضية اللاجئين وإلغاء حق العودة ، لذلك رفضوا هذا القانون جملة وتفصيلاُ مع رفض الجهة التي أصدرته ، واعتباره باطلاً كونه صدر عن قوة احتلال.
على حين كان الرفض الفصائلي الفلسطيني لهذا القانون لا يخرج عن إطار الشجب والإدانة والاستنكار إلى جانب تنظيم وقفات الاحتجاج الشعبية في العديد من أماكن تواجد شعبنا .
ولكن ماذا يعني قانون القومية بالنسبة لنا كشعب فلسطيني احتلت أرضه وطـٌرد منها منذ عام 1948 ، هو جملة وتفصيلاُ يعني استكمال نفينا من الخارطة السياسية والجغرافية ، فلا حق لنا في الأرض التي كانت لنا وأصبحت لغيرنا ، هذا وأنّ مشاريع التسوية المطروحة تعترف للغزاة الصهاينة بدولة ذات سيادة لها حق التصرف بما هو ضمن سيادتها ، حيث أتى ذلك القانون في إطار تلك السيادة المطلقة على الأرض المحتلة ، فهل نقبل نفي وجودنا كشعب احتلت أرضه وفقا لهذا القانون ولما تم على الأرض من إجراءات تؤكد فعل هذا النفي ؟
لكن قانون القومية هذا لم يأت من فراغ ، فقد جاء في إطار خطة متكاملة ليعبّر الاحتلال عن وجوده بأنه وطن قومي للشعب اليهودي ، ومن هنا وجدنا في السنوات العشر الماضية توصيف الاحتلال لدولته بأنها دولة يهودية ، وبرز مصطلح ( يهودية الدولة ) بشكل واضح لا غموض فيه ، حتى أنّ نتن ياهو رئيس حكومة العدو اشترط لقبوله بدولة فلسطينية قبول الفلسطينيين بيهودية دولة الاحتلال ، وبكل أسف تماهى بعض الأشخاص الفلسطينيين مع هذا المطلب الصهيوني ، حيث قال أحدهم بأنه لا مانع لديه من أن تسمي دولة الاحتلال نفسها بدولة يهودية أو صينية فإنّ ذلك لا يعنينا كفلسطينيين ، ويذهب آخر للقول بأنه على دولة الاحتلال أن تذهب إلى الأمم المتحدة وتسمي نفسها ما تشاء ونحن نقبل بذلك ، إنّ هذا التماهي الفلسطيني مع يهودية الدولة أعطى قوة دفع للاحتلال بأن يندفع لإصدار قانون القومية .
كما أنّ الموقف الأمريكي لعب دوراً رئيساً في الاستعجال بإصدار قانون القومية ، فقرار ترامب يوم 6/12/2017 بأن القدس الموحدة هي عاصمة الاحتلال ونقل سفارته إليها ومن ثم إلغاء عمل القنصلية الأمريكية في القدس ، ومؤكداً في خطوة متقدمة أعلن في يوم 13/12/2017 قبوله يهودية الدولة وأن تكون دولة الاحتلال هي دولة الشعب اليهودي ، كل ذلك شجع نتنن ياهو على أن يسارع بالدفع لتقديم قانون القومية إلى الكنيست ليصح قانوناُ نافذاً بتاريخ 19/7/2018 وإن كان بأغلبية ضئيلة 64 صوتاُ من أصل 120 عضواُ.
إنّ قانون القومية الصهيوني ومن خلال بنوده الأحد عشر بنداً قد جسّد الوطن القومي على أرض فلسطين المحتلة ، متطلعاً إلى التوسع في احتلال المزيد من الأرض العربية ، وهذا ما تؤكده المادة الأولى من القانون التي جاءت تحت بند المبادئ الأساسية ، ففي الفقرة ( أ ) من هذا البند يقول بأنّ :( أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي ، وفيها قامت دولة إسرائيل )، هنا في هذا البند يؤكد الحق التاريخي لليهود في فلسطين ، وبأنها أرض اليهود ليس منذ غزوهم واحتلالهم لها بل هي تاريخياً أرضاً يهودية ، وفي هذا نفي للشعب العربي الفلسطيني وحقه التاريخي بأرضه ، مما يعني نفي الرواية الفلسطينية نفيا مطلقاً ، وهو في هذا البند يتكلم عن أرض وعن دولة ، يتكلم عن أرض ( إسرائيل ) دون أن يحدد حدود هذه الأرض ، مؤكداً أن دولة ( إسرائيل ) قامت في أرض إسرائيل ، وكأنه يقول بأنً دولة ( إسرائيل ) لم تقم على كل أرض ( إسرائيل) ، فأرض ( إسرائيل ) ليست فقط هي الأرض التي تقوم عليها اليوم دولة ( إسرائيل ) ، إنّ هذا يعني أنّ العدو الصهيوني ما زال يتطلع إلى إقامة دولته الكبرى من الفرات إلى النيل ، مع أنهم أوجدوا فلسفة جديدة لمفهوم الدولة الكبرى ، بأنّ الدولة الكبرى ليست الكبيرة بمساحتها وإنما هي الدولة المسيطرة اقتصادياً على محيطها وإقليمها ، وبذلك نجد اليوم تسارع التطبيع العربي مع دولة الاحتلال .
كما أن هذا القانون وفي بنده الأول الفقرة ( ب ) يصف هذه الدولة بأنها ( الدولة القومية للشعب اليهودي ) ، وهذا يؤكد بأنّ هذا القانون يرفض وجود أية قومية أخرى داخل دولة ( إسرائيل ) ، إذا لا للوجود الفلسطيني على أرض دولة ( إسرائيل) ، لأنّ هذه الدولة هي دولة الشعب اليهودي فقط ، وهو فقط من يمارس حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي فيها لتقرير مصيره على هذه الأرض .
بل أكد هذا القانون في بنده الأول الفقرة ( ج ) بأنّ (ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصريا للشعب اليهودي )، إذا ليس من حق أي أشخاص مقيمين على أرض دولة إسرائيل وليسوا يهودا مهما كان عددهم ومهما كان ارتباطهم بهذه الأرض التي يقيمون عليها منذ آلاف السنين أن يمارسوا أي حق من حقوقهم على أرضهم ، حيث يصبح ارتباطهم التاريخي بأرضهم هو مجرد ارتباط سكني فقط ، وهذا يلغي الهوية الوطنية الفلسطينية لحوالي مليون واربعمائة ألف فلسطيني مقيمين على أرضهم الوطنية الفلسطينية قبل احتلال الغزاة الصهاينة لها .
وفي البند الثالث من هذا القانون يؤكد بأنّ ( القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل ) ، فهو يؤكد على وحدة القدس بشقيها الغربي والشرقي وبكل ضواحيها وبأنها القدس الكبرى هي عاصمة الدولة ، وفي هذا نفي مطلق لأي حق فلسطيني في القدس ، سواء كانت في شقها الشرقي أو في أي من ضواحيها ، مؤكداً بذلك بأنّ القدس الشرقية ولا أي من ضواحيها لن تكون عاصمة لأية دولة فلسطينية يمكن أن تنشأ مهما كان شكلها ومهما كانت مساحتها ، وقد حـٌسم ذلك بالاعتراف الأمريكي بالقدس الموحدة عاصمة لدولة الاحتلال .
وتأكيداُ لنفي القانون للوجود الفلسطيني على أرضه فأنه في مادته السابعة يؤكد بأن ( تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية ، وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته ) ، فتطوير الاستيطان والذي يتم على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 يؤكد بأنه لا يمكن لأي دولة فلسطينية أن تقوم على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 ، وقد قام العدو الصهيوني ببناء مئات المستوطنات التي أصبح يسكنها نحو ثمانمائة ألف مستوطن صهيوني وخاصة في مدينة القدس وضواحيها ، وأن هذه الأرض بالنسبة للعدو الصهيوني هي أرض يهودا والسامرة التي لا يمكن له الانسحاب منها أو التخلي عنها لصالح دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة .
إذا فقانون القومية الذي يؤكد على يهودية دولة الاحتلال ، وبأن فلسطين أصبحت بشكل قانوني صهيوني هي الوطن التاريخي والقومي للشعب اليهودي ، محققاً بذلك إنجاز الوعد البريطاني بإقامة الوطن القومي للشعب اليهودي في فلسطين .
ولا يمكن لنا كشعب فلسطيني أن نقف صامتين إزاء هذا الشكل الجديد من العدوان الصهيوني المستمر علينا ، على أرضنا التاريخية ، وعلى حقوقنا الكاملة فوق أرضنا ، وأن نفي وجودنا بهذا الشكل وشطبه يتطلب منا فلسطينياً أن نكون على مستوى المسؤولية في تصدينا لقانون القومية ومواجهته مواجهة حقيقة ، وهذا لا يتم بالرفض لهذا القانون وبالتوجه بالشكوى إلى الهيئات الدولية ، وإنما يتطلب موقفاً عملياً في مواجهة هذا القانون ، وأهم هذه المواقف هو إعادة الاعتبار للميثاق الوطني الفلسطيني ، هذا الميثاق الوطني الذي يؤكد على فلسطينية أرضنا وعروبتها ، وعلى حقنا في تقرير مصيرنا فوق أرض فلسطين التاريخية ، وفي اتباع كافة السبل والوسائل في مقاومة المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني على أرضنا ، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بوحدة وطنية فلسطينية مؤكدين على أنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد لكل أبناء الشعب العربي الفلسطيني في كافة أماكن تواجده ، وهي القائدة لنضالنا الفلسطيني في إطار استراتيجية متكاملة بين أماكن تواجدنا في أراضينا الفلسطينية المحتلة عامي 1948 و1967 وفي أماكن الشتات ، وبأنه بدون وحدة وطنية فلسطينية تجمع الكل الفلسطيني لا يمكن لنا التصدي لقانون القومية الذي هو بالأساس نتاج الاحتلال والمشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين .
2/11/2018 صلاح صبحية