هو تلك الرسالة التي كتبها حاييم وايزمان رئيس الحركة الصهيونية بخط يده في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917م، وبعث بها وزير الخارجية البريطانية (آرثر بلفور) بتاريخ 2/11/1917 إلى اللورد أدموند روتشيلد أحد أكبر الشخصيات اليهودية المالية في بريطانية في تلك الفترة والتي عرفت فيما بعد باسم (وعد بلفور)، والتي كانت أول خطوة علنية رسمية يتخذها الغرب الصليبي لتجسيد التحالف اليهودي - الصليبي ضد الأمة الإسلامية والوطن على أرض الواقع، ويعلن بها انحياز موقفه بالكلية لصالح اليهود وإقامة (وطن قومي) لهم على تراب فلسطيننا، ليكون لهما رأس الحربة لاستمرار نهبهما وسرقتهما لثروات الأمة والوطن. وليكون أداة الحفاظ على أنظمة التجزئة التي أقرتها اتفاقية سايكس - بيكو وقسمت من خلالها جسد الأمة (الوطن) إلى أشلاء (مناطق نفوذ) بين دول الاحتلال الغربي الصليبي.
وقد جاء الوعد بإقامة (وطن قومي لليهود) في فلسطين بحسب الشرط والفهم اليهودي، أي (دولة يهودية) لا ملجأ لليهود المضطهدين في أوروبا فقط.، بل دولة على غرار دول العصر الحديث. وذلك واضح في رد حاييم وازمان على استفهام الوزير (لانسنغ) أمام المجلس الأعلى لمؤتمر باريس عما يعني تماماً بالوطن القومي أجابه بجوابه المشهور: "أن تتاح لنا الفرصة لنبني بالتدريج قومية في فلسطين هي لليهود بمقام الأمة الفرنسية للفرنسيين والأمة الإنجليزية للإنجليز".
ذلك كان يعرفه بلفور وغيره من الساسة البريطانيين؛ لذلك ضمن رسالته الوعد العبارة التالية: "على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى".
لقد جاء الوعد بإقامة (وطن قومي لليهود) في فلسطين بحسب الشروط والفهم اليهودي، لقد جمع (وعد بلفور) المبادئ الأساسية للصهيونية في وثيقة حكومية رسمية لأول مرة:
حيث تبنى ما قرره المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م: بأن "غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام".
لقد اعترف ذلك الوعد المشئوم ولأول مرة بوجود (الشعب اليهودي) كأمة، ثم أصبح هذا الشعب (كياناً قومياً) يعترف به القانون الدولي، بعد أن تم دمج الوعد في صك الاحتلال (الانتداب) ووافقت عليه عصبة الأمم، في وقت كان يرى فيه العالم بأن اليهودية مجرد ديانة فقط.
مقابل ذلك الاعتراف باليهود كـ(قومية) أنكر الوعد وجود الشعب العربي الفلسطيني، وأشار إلى 90% من سكان فلسطين في ذلك الوقت بأنهم "الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين"، وتجنب ذكر كلمة (عرب) بهدف إخفاء حقيقة أن فلسطين بلد عربي.
وفي الوقت الذي اعترف فيه الوعد لليهود بحقوق وطنية وقومية في فلسطين (وطن قومي) على الأرض، نزع عن أصحاب الأرض الأصليين وأصحاب الحق الشرعيين تلك الحقوق واعترف لهم بـ(حقوق مدنية ودينية) فقط.
تلك العبارة شكلت نقطة تحول وارتكاز خطيرة في تاريخ فلسطين، فقد رسمت معالم وثوابت السياسة الغربية ضد الأمة والوطن، كما حددت مفردات الخطاب السياسي والثقافي الغربي لمعاني وأبعاد الصراع إلى نهاياته، باختصار: أعلن الغرب انحيازه التام لصالح اليهود منذ ذلك التاريخ، وقد تمثلت أول معاني ذلك الانحياز في حرمان الفلسطينيين والعرب من التمثيل في مؤتمر الصلح الذي عُقد بعد الحرب عام 1919في الوقت الذي سُمح فيه تمثيل اليهود بوفد كبير وقوي جداً، يرأسه حاييم وايزمان.
ثم تحقق لليهود ما أرادوا كما طالب هرتزل وقرر المؤتمر الصهيوني الأول: بأن "غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام". فقد خولت المادة (22) من ميثاق عصبة الأمم بريطانيا جميع الصلاحيات لتحويل فلسطين إلى وطن أو دولة لليهود. ومن بعد عصبة الأمم جاءت الأمم المتحدة رأس الشرعية الدولية المزعومة الآن لتعمل بموجب ما جاء في المادة (46) من دستور فلسطين الذي وضعته بريطانيا وتنص بكل وقاحة؛ على:
"يُشترط ألا يُطبق التشريع العام ومبادئ العدل والإنصاف في فلسطين إلا بقدر ما تسمح به الظروف وأن تراعى عند تطبيقها التعديلات التي تستدعيها الأحوال العامة"!
وقد جاء الوعد تنفيذاً للتوصية العاجلة التي أوصى بها تقرير كامبل بنرمان عام 1907 الدول الأوروبية الصليبية بسرعة تنفيذها وانتزاع فلسطين من السيادة الإسلامية العثمانية وزرع قومية غريبة عن شعوب وطننا تكون حاجزاً يفصل جزئه الشرقي عن الغربي، إن هم أرادوا أن يحافظوا على استمرار قيادة الرجل الأبيض وحضارته للبشرية، وهو مضمون وعد بلفور الذي أجمعت عليه الدول الغربية الصليبية آنذاك، الذي تعهدت فيه بريطانيا نيابة عن الغرب الصليبي في جعل فلسطين (دولة يهودية)، ذلك الوعد الذي يعتبر أول إعلان رسمي عن التحالف اليهودي الصليبي
تلك التوصية العاجلة هي ما جاء في وثيقة لويس التاسع التي استخلصها من نتائج فشل الحروب الصليبية، وأنه يجب زرع قومية غريبة في فلسطين تفصل شرق الوطن الإسلامي عن غربه، وهو ما حاوله نابليون في حملته على الشرق الإسلامي، وهي ما ذكر به روتشيلد في رسالته إلى بالمرستون التي حذرا فيها الغرب من عودة المسلمين لدينهم، ولضرورة إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين لشطر الأمة والوطن: "هناك قوة جذب بين العرب وعودة مجدهم المرهون بإمكانات اتصالهم واتحادهم، وأن فلسطين تعد الجسر الذي يصل بين مصر وبين العرب في آسيا، بوابة الشرق حيث يجب زرع قوة غريبة لتكون حاجزا".
وهي ما كتبه هرتزل في كتابه "دولة اليهود": "ونقيم هنا جزءً من حائط لحماية أوروبا في أسيا يكون عبارة عن حصن منيع للحضارة في وجه الهمجية ويتوقف علينا كدولة محايدة أن نبقَ على اتصال مع أوروبا التي ستضمن وجودنا بالمقابل". والفكرة نفسها بدأ في ترديدها حاييم وايزمان على مسامع حكام لندن قبل عقد مؤتمر لندن الذي صدر عنه تقرير كامبل بنرمان بخمس سنوات حيث كان يردد: "فلسطين اليهودية هي ضمانة لانجلترا خاصة فيما يتعلق بقناة السويس".
الوعد هو قانون ما أسموه (قانون القومية)! الذي اعتبره أستاذ القانون البروفيسور مردخاي كرمنيتسر: "ًوضع حداً لـ(إسرائيل) "كدولة يهودية ديمقراطية" تلتزم بمبادئ "وثيقة الاستقلال" وبالقيم الليبرالية العامة، ويخلق بالمقابل دولة يهودية، قومجية، دينية مناهضة للقيم الإنسانية والليبرالية".
الوعد هو الإجماع الغربي الصليبي بين جميع الطوائف والمذاهب الدينية والسياسية النصرانية على عمق خلافاتها وصراعاتها، دفع باحثاً ومفكراً يهودياً صهيونياً إلى وصف (وعد بلفور) وصفا بالغ الدقة يجمل كل الاختراقات اليهودية التي حدثت طوال القرون الخمسة الأخيرة للعقيدة النصرانية والمجتمعات الغربية، فقال: "لقد كان (وعد بلفور)، بمعنى بالغ العمق، وثيقة (مسيحية) أو لنقل قول العابر المتعجل. وثيقة بروتستانتية".
لذلك ساعدت الأمم المتحدة على إنهاء جميع الاحتلالات الغربية في العالم، ونالت جميع الدول والثورات الاستقلال إلا فلسطين، لأنه تم استثنائها من البداية من أن يُطبق عليها القانون الدولي.
الوعد حمع كل المخططات الغربية واليهودية ضد وطننا، هو: ضرب الإسلام والقضاء عليه، لأنه هو القوة الحيدة القادرة على إجهاض كل أطماعه في وطننا، وتهديد وجوده أيضاً.
مصطفى إنشاصي