تبرئة الذات الفردية بتجريم الذات الجماعية

بقلم: عدنان الصباح

حالة القهر العربي المترامي الأطراف بداية الى ترامي الأعماق تدريجيا ليست حالة عبثية أو آتية من فراغ بل هي حالة دفاع عجيب عن الذات تشبه حالة القط في دفاعه عن نفسه أمام جبروت الأفعى أو حالة القنفذ في اختبائه خلف جلده الشوكي من وهم الأعداء المفترضين أصلا أو الذين كانوا ذات يوم ثم غلبوا بينما ظل القنفذ محشورا في جلده الشوكي لا يغادره ولا بأية حال من الأحوال.

أقول ترامي أطراف القهر بمعنى أن القهر من الذات لم يعد محصورا في بلد عربي دون ألآخر فعلى مدى قرون من الآن قدم العربي لذاته مثالا لا يماثله مثال عن القبول بالهزيمة وتحمل التراجع إلى الوراء من الوراء حتى لم يعد عربي واحد يفكر في آليات الانتقال مرة واحدة إلى الأمام بل اكتفينا بالقبول بما نحن عليه أيا كان الحال تحت قاعدة أن كل ما حولنا يسعى أو سعى لسرقة ما لدينا دون أن نعترف انه ليس لدينا شيء يستحق السرقة وبمعنى أدق فلم يكن هناك في الأصل شيئا يستحق السرقة وما نتبجح به تاريخيا عن حضارتنا وثقافتنا وعلماءنا لا علاقة له على الإطلاق فيما يسمى اعتباطا بالعروبة فهم أي العلماء والفلاسفة تاريخيا جاءت عروبتهم من إسلامهم بينما ينتمون في الأصل لقوميات أخرى مختلفة وبالتالي يجوز القول أن فوبيا الخوف من سرقة انجازاتنا آتيه أصلا من إدراكنا أننا أول من فعل ذلك وسرق انجازات الأمم والشعوب التي خضعت لإرادتنا بالسيف وتجانست معنا بالدين دون أن تتجانس بالقومية وظلت ولا زالت تشاركنا الدين وتعارضنا قوميا لإدراكها هي أيضا أننا سرقنا تاريخها وحضارتها وبالتالي يصعب عليها أن تتماثل معنا حتى وان كانت قد تنازلت عن قومياتها لأسباب قهرية.

إنها كارثية المسكوت عنه قهر فلا العرب سيقبلون بالقول ان الذين دخلوا الدين بوابة للعروبة وتنازلوا عن قومياتهم لم يكن مطلوبا منهم ذلك وانهم فعلوا ذلك عن ضعف ورضوخ ولا القوميات نفسها مستعدة للاعتراف علنا بذلك حتى لا تفقد احترامها لذاتها فالمصري حتى اليوم يحن لفرعونيته وكذا يفعلون في العراق وبلاد المغرب والمشرق العربي والسودان نموذجا للصراع الخفي بين ذوي البشرة العربية الذين يحكمون حتى اليوم والبشرة السوداء الخاضعين للحكم اعتباطا فالذي تنازل عن قوميته قابل بالصمت عن ذلك وراض بعروبة تحفظ له ماء وجهه ولو كذبا والذي حكم وملك لا يريد لسيرته أن تبدو قمعية لاغيه لغيره فهو يلجأ للدين تبريرا لفعله حين يريد أن يبرر ولا يرضى بالدين رابطا على قدم المساواة مع غيره من الأمم بمعنى انه استخدم الدين للنهوض بذاته واخضع غيره رغما عنه وتناسى أن الإخضاع لا يثمر فعلا ولا حضارة ولذا تراجعت الحضارات لدى الأمم التي تنازلت عن قومياتها لصالح العروبة بينما نمت وتواصلت لدى الأمم التي حافظت على قومياتها وفصلت بين الدين ولغته معتبرة أن اللغة العربية للدين لا تعطي للعرب أفضلية عليهم لمجرد انه لغة القرآن الكريم.

لقد اتقنا سرقة جهد الآخرين إذن وانتحال انجازاتهم على مر العقود وحرصنا أن نلغي صفاتهم القومية ونحشرهم بجلبابنا قسرا دون أن نعلن أننا ندرك الحقيقة بدواخلنا, وهذا الإدراك للجريمة عادة لا يغيب بل يصبح متأصلا حد نسيان الجريمة شكلا وقبول نتائجها فعلا أيا كانت تلك النتائج.

قبول الجريمة كنتيجة مع مواصلة لعنها شكلا لا يلغي أن اللاعن مجرما وهو ما لا زلنا نفعله حتى يومنا فنحن نرتكب كل الموبقات ثم نجد لها تخريجات لغوية كما اعتدنا عبر التاريخ فالهزيمة نكبة ووكسة ونكسة ولكنها أبدا ليست هزيمة والتراجع أمام الأعداء أيا كانت أسبابه الحقيقية فإننا نجد له تخريجات لغوية عجيبة وغريبة لكن اخطر أشكال الهروب من مواجهة الحقيقة هو اللجوء إلى لعن الذات الجماعية بمعزل عن الذات الفردية وهذا يأتي في الأصل من إدراك الذات الفردية للجريمة المرتكبة جماعيا ولان الأصل في الذات رفض الجريمة فان العربي الفرد يلجأ للعن العروبة كوهم أو كافتراض بمعزل عن أناه حتى يجعل لنفسه متنفسا للبوح بحقيقة ما يضمر لفعلته وليحاول الناي بنفسه عن جريمة الجماعة والأعجب أن مكونات الذات الجماعية بالمطلق في الحال العربي تعلن اعتراضها على هذا الحال ورفضها له ونقدها ونقضها لكل مخرجاته دون أن نسال أنفسنا سؤالا واحدا حقيقيا مبني على مواجهة الذات بوجهيها الفردية والجمعية وهذا السؤال هو

إذا كانت كل الذوات الفردية بريئة ورافضة لواقع الحال ومخرجاته فمن هي إذن هي الجهة المسئولة عن هذا الحال وكيف يمكننا الانتقال لحال أفضل إذا لم نتمكن من تحديد مسئولياتنا الفردية أولا ولم نحدد الأطر الجامعة لنا مضمونا وشكلا ونسعى لإيجادها وتفعيلها واحترام دورها ومكانتها وإتاحة الفرصة الجدية لها للقيام بدورها عبر تقويم ونقد ايجابي فاعل ومتواصل بهدف التطوير والانجاز بعكس حالنا اليوم الساعي للإحباط ومنع الفعل عبر تفعيل الرفض اللفظي والنكوص العملي عن إي مشاركة ايجابية هادفة لتحقيق الأفضل.

هناك من يجيب فورا بأنه الحاكم الفرد أو الحاكم الطبقة أو الهيئة دون تمحيص بالإجابة فالحاكم فردا أو جماعة جاء بالأصل من المكونات المنفردة للذات الجمعية التي بات يمثلها أو يقودها ثم أن هذا الحاكم ظل متغيرا على مدى العصور فهو لم يتواصل باستمرار بل حصلت القطيعة مرارا ومرارا بين ما مضى وما جاء وبالتالي فمن المفترض أن الجديد أصبح من حقه محاكمة القديم وهو يعلن ذلك في البداية ثم تراه ينجرف في نفس الحال غير قادر على التغيير أو رافضا له وبقدرة قادر يتحول إلى مدافع عن كل التركة التي جاء أصلا لتغييرها فهو يصبح عاجزا فورا عن انجاز هذا التغيير.

العجز عن التغيير أصلا نابع من غياب أو تغييب الأدوات لفعل التغيير وهذه الأدوات في الأصل هي الجموع أو الذات الجمعية بمكوناتها الفردية والحاكم لا يريد للذات الجمعية أن تحضر حتى لا تأخذ منه سلطاته أو تتقاسمها معه والذات الفردية لا تريد أن تحضر حتى لا تجد نفسها قابلة بمقولة أنها أيضا كانت مجرمة وان عليها أن تغير ما قبلت به من قبل أو ما اقترفته يداها وهي تدرك أن رفض الماضي لا بد من أن يتبعه القدرة على الإتيان بجديد ولذا نبدو في قمة تناقضنا فنحن نلعن كل شيء مضى وقائم ونرفض في آن معا كل جديد.

التبرير الحاضر لحالة القرف والنكوص عن الفعل الجمعي التي نعيشها هو باتهام الحاكم بالفساد والتفرد والسلطوية المطلقة دون أن ندرك أن أي حاكم مهما كانت قدراته الفذة لا يمكنه مواصلة تفرده وفساده إن لم يعتمد على قبول الغياب أو التغييب من قبل أفراد الجماعة أولا وان لم يجد مشاركة مباشرة أو غير مباشرة بأشكال الفساد والتفرد والسلطوية المطلقة لدى أفراد مجتمعه الذي يقود.

الفساد والتفرد قائم من القاعدة التي أرسلت ممثلها لقمة الهرم فرب الأسرة متفرد وفاسد في تفرده فهو يصدر القرارات جزافا وحسب رغبته ومصلحته ورؤيته دون أدنى اعتبار لمن هم ضمن جماعته الصغيرة فالابن والبنت والزوجة عليه أن يأكل ويدرس ويلبس وينام ويصحو كما يرغب رب الأسرة أو قائدها والأنثى عليها أن تطيع رغبات الرجل داخل البيت وخارجه وهي ستعتبر متمردة وناشز وخائنة إن فعلت خلاف ذلك وداخل الأسرة يسمع الجميع الحقيقة عن الغير بينما يمنع عليهم التحدث عن حقيقة حالهم ويتعلمون من القدوة كيف يرمي مخلفات المنزل خارج البيت لان الشارع ليس له ولان الجيران ليسوا من جماعته وهو بالتالي سينتقل لإلقاء المخلفات خارج غرفته فهذا بيت السلطان أو الأب لا بيته ثم سيصل به الأمر إلى إلقاء المخلفات خارج سريره فالأم أو الأخت عبده بيتيه عليها أن تعمل على خدمته وخدمة نظافته حتى الشخصية كما نفعل مع عامل النفايات في الشارع فواجبه أن يحمل نفاياتنا وبطولتنا أن نلقي بها بعرض الشارع الذي لا ينتمي إلينا ولا ننتمي إليه فهو شارع البلدية والكهرباء التي نسرقها هي كهرباء البلدية وكذا المياه والضرائب ثم نأتي لنشتم كل شيء إلا ذواتنا والتي هي بالضرورة مؤسسة الفساد وصانعته.

لم تكن العراق عربية قبل الإسلام وكل شيء فيها ماثلا للعيان حتى الآن ويشهد على ذلك وهي أصبحت رغما عنها عربية بإرادة الحاكم القاهر وعربت نفسها وناسها وهذا الحاكم ظل يدرك أصلا انه ليس أكثر من سارق للبلد وكان من المستحيل عليه أن يجد حماية حقيقية من أناس لا ينتمون إليه ولا ينتمي إليهم بالسلوك والممارسة العملية لا بالقول ولذلك فهم ظلوا مستعدين حين تتاح لهم الفرصة للفتك به وقد يكون التاريخ القريب يشبه البعيد فمنذ نهايات الملكية الحديثة وما بعدها حتى صدام حسين الذي وجد نفسه وحيدا ووجد معارضيه يخونونه ويخونون بلده او مزرعته علنا ويحتمون بدبابة المحتل الأجنبي بلا خجل ليتخلصون منه وفقط في الحالة العربية العجيبة تجوز الخيانة كوجهة نظر فلقد قبل الشعب المصري يوما محمد علي الألباني كبطل للقومية العربية ولقد خانت المعارضة العراقية بلادها عبر استقدام الاحتلال الامريكي وفعل ذلك المعارضين في سوريا وليبيا واليمن وها هم اليوم بعض العرب يعملون علنا لخدمة أهداف الأجنبي على ارض بلادهم دون خجل بل ويجدون مبررات للدفاع عن فعلتهم والأخطر أن هناك من يدعون الثقافة والفكر يخضعون خزعبلاتهم اللغوية لصالح تبرير الخيانة علنا.

إننا اليوم ندفع وسندفع غدا أكثر ثمن جريمتنا بإلغاء الآخرين كمكون قومي وحضاري وثقافي وإخضاعهم بالقوة لمنطقنا وإجبارهم حتى عن الانقطاع عن تاريخهم الذي فقدناه قبل غيرنا ولم نقبل الآخر معنا كما هو وإلا لكان للحضارات التي اجتمعت معنا في آن واحد القدرة الأكبر على صناعة حضارة إنسانية أممية عظيمة وبدل أن نفعل ذلك ونحيي تلك الحضارات وننتصر بها ولها وندفع بها للنهوض والمواصلة فقد قمنا بخلاف ذلك بتعريب شمال إفريقيا وحوض نهر النيل وما بين النهرين زورا وقسرا فلا عجب إذن أننا الأمة الوحيدة التي تتفنن في شتم الذات وتتباهى بفعل ذلك لعل الهدف الأبرز تحرير الذات من جريمة الوقوع بالهزيمة والرضوخ لها أو قبولها.

بقلم/ عدنان الصباح