غلافُ غزةَ منبرُ التطرفِ ومنصةُ الإرهابِ

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

أصبحت المستوطنات الإسرائيلية التي تقع في محيط قطاع غزة، المتاخمةُ له أو القريبةُ منه، أو حتى تلك التي تقع بعيداً عنه ولا تطل عليه، ولا ترى أهله ولا تحتك بسكانه، إلا أن صواريخ المقاومة تطالها كالقريبة، والقصف ينال منها كالمجاورة، ودخان المظاهرات يخنقها، وهتاف المتظاهرين يرهب سكانها، وبالونات المحتجين تصلهم، وطائراتهم الورقية تحرق مزارعهم، وتشعل النار في مرافقهم، وصوت الزاحفين تحت مساكنهم يرعبهم، ودبيب الحفريات تحت أقدامهم يقلقهم، والخسائر تصيبها كغيرها، والاضطراب يشملها والفوضى تعمها، والخوف يسكنها كجارتها من المستوطنات الأخرى، التي باتت تعرف بمستوطنات الغلاف.

باتت هذه المستوطنات التي غدت مشهورة ومعروفة، مزاراً للمسؤولين السياسيين الإسرائيليين، ووجهةً للقادة العسكريين، ومحطةً للزوار الوافدين والأجانب، وعنواناً دائماً للإعلاميين المحليين والدوليين، ومحطةً ثابتةً للفضائيات الإسرائيلية والعالمية، وحائط مبكى جديدٍ للمستوطنين الإسرائيليين، إذ يحرص سكان هذه المستوطنات ورؤساء بلدياتها على إظهار مظلوميتهم، وإبراز شكواهم، واستعراض خسائرهم، والتأكيد على معاناتهم، فأصبحت لذلك ولخصوصية ظروفها وحساسية أمنها منصةً للتصريح، وجبهةً للتصعيد، وبوقاً للتهديد، ومنطلقاً للبريد، منها تصدر الرسائل وتنشر البيانات، وتوزع التحذيرات وتعمم التنبيهات، وإليها تتجه الدبابات والآليات، وفيها تتجمع القوات ويحتشد الجنود.

لا يكاد يمر يومٌ دون أن يزور هذه المستوطنات مسؤولون رفيعو المستوى من جميع المستويات القيادية السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية، إذ يزورها رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، ووزير حربه أفيغودور ليبرمان، والعديد من الوزراء المتشددين، ورئيس أركان جيش العدو وعشرات الضباط من مختلف القطاعات العسكرية، وقادة المستوطنين وكبار الحاخامات ورجال الدين، وغيرهم من قادة الأحزاب ورؤساء المنظمات، الذين يصطحبون معهم أحياناً الوفود الزائرة والضيوف الحاضرين، ليعرضوا عليهم معاناتهم، ويستعرضوا أمامهم شكواهم على المقاومة الفلسطينية، ويعلنوا في وجودهم اتهامهم للفلسطينيين وحركاتهم، وأحزابهم ومنظماتهم، بأنهم يهددون أمن مستوطنيهم، ويعرضون حياتهم للخطر، ويتسببون في تعطيل المدارس والجامعات، وتوقف عجلة العمل والإنتاج، وإلحاق الضرر بالتجارة والاقتصاد.

قد لا يحتاج المسؤولون الإسرائيليون لمن يحرضهم أو يستفزهم، أو من يحفزهم ويزيد في حدتهم، أو من يطلب منهم المزيد من المواقف الصلبة والتصريحات القاسية، فهم في أصلهم متطرفون ومتشددون، ويمينيون وعنصريون، وعدائيون ومعتدون، وهم يأتون إلى مستوطنات الغلاف ليعبروا عن حقيقة مواقفهم، ويسفروا عن عميق سياستهم بوضوحٍ وجلاءٍ، ويريد بعضهم أن يبرر بزيارته أسباب تطرفه ودوافع تشدده، وقد يجلبوا معهم بعض المصابين أو يقف إلى جانبهم رؤساء البلديات والناطقون باسم السكان، ومنهم من يريد أن يسعر أوار الحرب ويدق طبولها، ويزيد من احتمالاتها أو يقرب في ساعة اندلاعها، ولا يرى أفضل مكاناً من مستوطنات الغلاف ليرفع صوته منها، ويحذر بشن الحرب من حدودها.

قد لا يكون بعض المتشدقين بتصريحاتهم النارية، والمتصدرين للمنابر الحربية، والمسارعين لدق نواقيس المعركة، صادقين في مواقفهم، وجادين في تحذيراتهم، إنما يحاولون استغلال الظرف والموقف، والمكان والزمان، للاستفادة منها في رفع أرصدتهم الانتخابية، وتحصين مواقعهم الحزبية، وإثبات جدارتهم وألويتهم، وبيان مقدرتهم على المواجهة وجاهزيتهم للرد، أملاً في الحفاظ على مواقعهم، والبقاء لفترةٍ أطول في مناصبهم، فضلاً عن الأمل في التجديد وإعادة الانتخاب، إذ لا تعنيهم معاناة السكان ولا تهمهم مطالبهم وحاجتهم، وإنما تعنيهم السلطة والمنصب، ويخافون من الخسارة والرحيل، وفقدان المواقع وتخلي الناخب عنهم.

ينسى المسؤولون الإسرائيليون أن المقاومة في قطاع غزة لا تهدد المستوطنين ولا تحاول الوصول إلى المستوطنات، ولا يحتج أهل القطاع وينظمون المسيرات على الحدود وأمام الأسلاك الشائكة، ولا يعرضون حياتهم للخطر ومستقبلهم للضياع لولا الحصار الإسرائيلي الظالم المفروض عليهم، والمعاناة الدائمة لسكانهم، والعقوبات القاسية التي يفرضها عليهم، وعمليات القصف المستمرة عليهم، والاعتداءات المتكررة على المواطنين الغاضبين، التي تسببت في استشهاد أكثر من ثلاثمائة فلسطيني، وإصابة أكثر من ثلاثين ألفاً بجراحٍ مختلفة، كثيرٌ منها أدت الإصابات إلى بتر أطراف أصحابها، وتسببت لهم في عجزٍ دائمٍ وإعاقة مؤلمة.

لا مبرر للمسؤولين الإسرائيليين لأن يهددوا الفلسطينيين ويحذروا سكان قطاع غزة ومقاومته، وحريٌ بهم ألا يصغوا لمستوطنيهم وألا يستجيبوا لدعواهم، وألا يصدقوا شكواهم أو يخضعوا لرغباتهم، إذ هم الذين يتحملون مسؤولية معاناة مستوطنيهم، وهم السبب في تدهور أمنهم وفقدانهم للطمأنينة في حياتهم، وتعطل مرافق عملهم ووسائل عيشهم، إذ لا عدل في قراراتهم، ولا نجاة في سياستهم، ولا فائدة من حصارهم، ولا نتائج مرجوة من اعتداءاتهم، ولا أمل أن يركع شعبنا لهم مهما اشتدت اعتداءاتهم وقست ممارساتهم، وإنما عليهم أن يلتفتوا إلى أصل المشكلة وسبب المعاناة، وعندما يدركون أنهم الاحتلال والسبب، وأنهم المصيبة والداء، سيعرفون حينها الطريق الأسهل والأنجع والأفضل والأسرع إلى التسوية والحل.

يخطئ العدو الإسرائيلي عندما يظن أنه بتصريحات قادته ومسؤوليه سيخيف الفلسطينيين، وسيرعب المقاومة، وسيضع حداً لها، وسيجبر المحتجين والمتظاهرين على العودة إلى بيوتهم، والتراجع عن قرارهم، والكف عن إطلاق طائراتهم أو إرسال بالوناتهم الحارقة إليهم، فالفلسطينيون مظلومون ومحاصرون، ومعتدى عليهم ومحرومون، ويتعرضون للقهر والقتل، والاعتقال والأسر، ويحاربون في لقمة عيشهم ومستقبل وجودهم.

ولهذا فإن هذه التصريحات والتهديدات لن تخيفهم، ولن تفت في عضدهم، ولن تسكت نضالهم، ولن تمنع أبناءهم من مواصلة مقاومتهم بكل الأشكال الممكنة والوسائل المتاحة، حتى يتحقق الهدف ويرتاح الأهل، ويشعرون بالحرية وينعمون بالعمل والسفر وطمأنينة الحركة والتنقل، وإلا فإن الأيام القادمة ستشهد المزيد من زياراتهم الاستفزازية إلى مستوطناتهم، وستسخن المنابر وستعلو أصوات الميكروفونات، ولكنها ستبقى مجرد كلمات لا تحقق أمنهم، وصرخات في وادٍ ولا تطمئن مستوطناتهم، ولا تلبي أمنياتهم.

بقلم/ د. مصطفى اللداوي