تحدث الكثيرون عن ياسر عرفات؛ من اتفقوا معه ومن اختلفوا، ولكنَّ كلمتهم حوله كانت جامعه: "لا نختلف عليه".
قبل عامين نشرت كتاباً بعنوان (ياسر عرفات: ذاكرة لا تغيب)، حاولت فيه استنطاق "الكل الفلسطيني"، وكانت الإجابة التي أثلجت صدري هي اعترف الجميع بتميّزه، وأنه من أعطى للهوية الفلسطينية حضوراً عالمياً، وأن الرجل عاش بين شعبه كوالدٍ للجميع، محتضناً أنصاره ومخالفيه، ولم يترك باباً للحوار وتبادل الرأي والمشورة معهم إلا وفتحه، وكان حرصه على وحدة الموقف الفلسطيني، وسعيه الدؤوب لاحتواء الخلاف لا ينكره أحد.
نعم؛ الرجل (رحمه الله) لم يكن ملائكياً، ولكن بمعايير ما هو قائم من هيبة ومكانة للزعماء، كان الأفضل، وعمل بالمقولة الشهيرة "نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا حوله"، فكان صدره مثابة آمنة للفلسطينيين.
يصف د. موسى أبو مرزوق؛ القيادي في حركة حماس ورئيس أول مكتب سياسي لها، الشهيد ياسر عرفات بالقول: كان أبو عمار (رحمه الله) يتمتع بسعة صدر جعلته يحتوي الخلافات الفلسطينية، والناتجة عن اعتبارات موضوعية في مراحل التحرر الوطني، مثل الاختلافات الإيديولوجية والاختلافات في النظم السياسية، التي يعيش فيها الفلسطينيون كلاجئين، لقد حرص ألا يقطع شعرة معاوية مع أحد، وكان سيداً في التكتيك السياسي، ومعتداً بنفسه وبهويته وبشعبه وبإمكانياته، وأن أبناء الشعب الفلسطيني يفتقدونه كثيراً في هذه الأيام. لقد كان ياسر عرفات أشبه بربان السفينة، والذي حافظ على توازنها وسط كل العواصف والأعاصير، ولم يفقد الأمل (رحمه الله) وظل يحلم بالقدس وتحريرها وفلسطين واحتضانها.
أما الشيخ الشهيد أحمد ياسين فكان يقول "أنا مواطن فلسطيني من شعب يرأسه ياسر عرفات".. قالها (رحمه الله) وهو في عنفوان قوة حركة «حماس» التي كان يقودها.
وعلى نفس الخطى، جاءت كلمات الأستاذ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، تحمل الكثير من نبض الوفاء لتاريخ عرفات وسيرته النضالية، حيث قال: "اتفقت معه أو اختلفت... فالشهيد ياسر عرفات هو قائد استثنائي في تاريخنا الفلسطيني المعاصر".
وحين استكتبنا القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي في سجنه حول ياسر عرفات، كتب يقول: "إن ياسر عرفات مسكون في داخله بالفدائي، الذي لم يغادره أبداً؛ بل سكن قلبه وعقله ووجدانه وسلوكه، وظنَّ البعض أن السلطة وامتيازاتها ستحول ياسر عرفات إلى حاكم استبدادي يقمع شعبه، ويجمع ثروة طائلة من الأموال، ويعيش حياة من الترف والبذخ، وهؤلاء لم يدركوا فدائية ياسر عرفات، الذي كان أمامه فرصة ليتحول إلى ثري كبير أثناء عمله مهندساً في الكويت آواخر الخمسينيات... من ناحية أخرى، انحاز الفدائي ياسر عرفات إلى مدرسة الممارسة الثورية, وليس التنظير الثوري، ولم يدَّع يوماً أنه مُنظِّر مثقف ومفكر؛ بل فدائيٌّ مستعد للعمل الثوري والعمل الكفاحي، وهذه الروح وهذا السلوك العرفاتي طبع قسماً لا بأس به من حركة فتح ومناضليها، الذين تأثروا به من الرعيل الأول لهذه الحركة. لقد ظل ياسر عرفات الفدائي أقرب القادة الفلسطينيين إلى ضمير الشعب ونبضه وحياته، احتضن الشهداء وأسرهم والمقاتلين والفدائيين، وعالج الجرحى وقبَّل أقدامهم وواسى جراحهم، واقترب بأبوية من كل القطاعات، لم يترفع، حيث خالط جميع فئات الشعب، وفتح الباب للجميع، آمن بلقاء الناس، والحديث مع الناس، والاستماع إلى همومهم وشكواهم".
أما الأخ نافز عزام؛ القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، فكتب يقول: "لا يجوز أن يُنظر إلى الرئيس الراحل ياسر عرفات على أنه زعيم لفتح؛ بل يجب أن يتم تقييمه باعتباره واحداً من أهم زعماء حركات التحرر في القرن العشرين، ومهما كانت شدة الانتقادات التي وجهت إليه، ومهما كان حجم الجدل الذي أحدثه عشية التوقيع على اتفاق أوسلو، فالإطار العام أن أبو عمار يبقى زعيماً تاريخياً، وواحداً من أهم القادة الذين حملوا اسم فلسطين إلى جميع أنحاء العالم".
وكم أعجبتني تلك الكلمات للصديق د. سلام فياض، رئيس الوزراء السابق، والتي أوردها خلال تقديمه لكتابي عن ياسر عرفات، قائلاً: "إن الوفاء لذكرى (أبو عمار) وتراثه الكفاحي يتمثل في العمل الجاد من أجل إنهاء الانقسام وإعادة الوحدة للوطن، فلم يكن أبو الوطنية الفلسطينية وموحد الشعب يعلم أن الوطن الذي تمكن من وضعه تحت الشمس، سیُدمی بالانقسام. إن ياسر عرفات الذي جعل من منظمة التحرير الفلسطينية البيت والخيمة الجامعة لكل الشعب وقواه السياسية، بدلاً عن خيام التشرد واللجوء والتمزق وتذويب الهوية وطمسها، هو ياسر عرفات الذي قاد شعب فلسطين المشرد واللاجئ إلى شعب مصمم على التمسك بحقوقه الوطنية، وعلى فرض الإقرار بها على درب نيلها كافة، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر بوابة إعادة الوحدة لوطننا ومؤسساته، وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة".
ولعل ما سطرته الإعلامية الفلسطينية المقيمة في الهند؛ مفاز أحمد يوسف، يجسد التعبير الصادق عن التقدير والمحبة التي يكنُّها جيل الشباب للقائد والزعيم ياسر عرفات.. "إن (أبو عمار) لجيلي من الفتيات هو ذاكرة لا تغيب؛ وهو في مشهد تلك الذاكرة, الفلسطيني المناضل الذي صنع لنا هويتنا الوطنية، وحفر لقضينا مكانة يحترمها الجميع؛ ففلسطين هنا في الهند تعني عرفات، وعرفات يعني فلسطين, وأينما ذهبنا كانت كوفيته رمزاً لفلسطين.. وفي حالات كثيرة، كنت أتعرض لمواقف تحرجني، فعندما أقول إني من فلسطين، أتفاجا بأنهم لم يسمعوا بها!! فأحاول بطريقة أخرى أن أقول: هل تعرف (أبو عمار) أو عرفات؟ فمجرد سماع اسمه تعود لهم الذاكرة، ويبدأون بهز رؤوسهم.. لقد طاف العالم يحمل بقلبه البندقية وبفمه الرصاص؛ أبو عمار صاحب الكوفية، والعينين الدامعتين على الوطن.. في بيتي الصغير بالهند، احتفظ بصورة له لتزيين جدرانه، وهو رافع يده بعلامة النصر، يبشرنا والأمل ينبعث من عينه بأن هناك عودة؛ اليوم أو بعد غد، وعندما أكرمني الله بطفلي الأول أسميته عرفات، ليبقى هناك بيننا شاهداً في حضرة الغياب.
أما الإعلامية فتقول: "ياسر عرفات في كلِّ واحدٍ منَّا شيءٌ منه، إن (فلسطين) و(أبو عمار) هما اسمان متلاصقان مترادفان".
لقد استنطقت في كتابي "الكل الفلسطيني"، فكانت الكلمات التي توزن بالذهب في سياق الوفاء لرجل له في أعناقنا أكثر من بيعة وعهد، ولعل هذه السطور التي نحتها بوجدانه قلم صديقي د. فخر أبو عواد؛ الأستاذ بالجامعة الإسلامية، وهي تختصر الكثير مما كنا نود قوله من باب الأمانة ورد الجميل لشخص ياسر عرفات في ذكرى رحيله الرابعة عشر، والتي جاء فيها: "أعترف يا سيدي، أنه في حضورنا بين يديك، كان الحال أقل تشتتاً، ولم تغب "فلسطين"، بل حضرت متبرجة في ليلة عرسك الأخير، فيما نحن من حولك - جميعنا - نحتمي بك، فلا تصلنا ريحهم أو رائحتهم، ونأبى أن نموت غمَّاً واستسلاماً.. أعترف يا سيدي بأنك كنت تختزن كل الخيارات التي لم يغب الفلسطيني في أيٍّ منها. ومع ذلك، فقد كِلنا الهجاء لزمنك الأجمل من زماننا، وعمدنا إلى شيطنتك، وتغييرك بهزيمة لم تعشها ولم ترضخ لها.. أعترف بأنك كنت غمداً لكل السيوف، ورجلاً لكل الفصول، بعد أن تجاوزت بصدقك حدود عصبة القبيلة الأوسع لتغني معنا ما نريد، وتظل حاضراً دائماً.. أعترف يا سيدي بأنني أفتقدك، بعد أن حرصت في حضورك أن لا أطرق بابك فتحسب عليَّ, فيما أمَّلت - دائماً – أن تصلني أنت فتحسب لك. والآن، لا تغادرني روحك. أفتقدك يا سيدي.. ونحن نعيش من بعدك قيامتنا الصغرى، وتيهنا الكبير".
لا شك أننا اليوم وأكثر من أي وقت سبق نفتقد حكمة القائد والزعيم ياسر عرفات، الذي كانت نواصي وحدتنا بين يديه.. واليوم، في مشهد الخلاف والتلاحي السياسي تاهت بنا السُبل، وترنحت قافلتنا الوطنية تظلع بعيداً، حيث غاب حاديها.
ياسر عرفات: الكاريزما والأسطورة
في الحقيقة، سيظل ياسر عرفات قصة تُحكى للفلسطينيين، وسيظل تاريخه لغزاً يستحيل فك كل رموزه، وستظل بصماته واضحة على الحقبة الممتدة على مدى مساحات زمنية تجاوزت النصف قرن من الكفاح المسلح والنضال السياسي في وجه الاحتلال الغاصب.
ياسر عرفات - شئنا أم أبينا - أثَّر فينا، وكان أحد المحاور التي دارت عليها حركتنا السياسية، وأحد الأقطاب الذي شدَّ عملنا الوطني والنضالي، وأحد أهم العناصر التي أثَّرت في المشروع السياسي الفلسطيني سلباً أو إيجاباً.
ياسر عرفات كان مفصلاً من مفاصل القضية، وعلماً من أعلامها، وجداراً من جدرانها، ومَعلماً من معالمها. نعم؛ ستدور بشعبنا السنون وتتعاقب الليالي والأيام، ولكنَّ ياسر عرفات سيبقى هو العنوان لحكايتنا الفلسطينية التي تأبى النسيان.
باختصار.. كان ياسر عرفات مقاتلاً وسيرة نضالية، وقد شهد له شعبه وأمته والعالم من حوله بهذا المشوار الثوري الذي فرض له احترامه وحبه على الجميع.. سنظل نشدو بذكره كلما حلت الذكرى وطابت الذكريات، فهو مسكون فينا وذكراه – أبداً – لن تغيب.
رحمك الله يا أبا عمار.. كنت لنا الزعيم والقائد والأب الحاني، وستبقى ذكراك تعيش فينا، لا نقيل ولا نستقيل.
رحمك الله يا أبا عمار.. كنت الثائر الذي صنع هويتنا الفلسطينية، وظل كعبك الوطني عالياً في المكانة وإصلاح البيت الفلسطيني.
كم نحن اليوم بحاجة إليك يا أبا عمار.. لقد فقدنا البوصلة، وتاهت بنا الدروب، وضاعت معالم الطريق، بعدما غابت تجليات حكمتك.
بقلم/ د. أحمد يوسف