لماذا نفتقد الرئيس أبو عمار

بقلم: أسامة نجاتي سدر

نفتقده!!! ليس بأيدينا، لا زلنا نتابع فقرات الأخبار علَّنا نلمح وجهه!!! البعض لا يصدق أن التراب قد احتضنه!!! وأنه الآن بين يدي ربه، والتاريخ يناضل كي يصوغ حكايته بكل أبعادها ولا أظنه سينجح!!! ناضل الحاج أمين الحسيني ضد الإنجليز حتى اختار النفي إلى سوريا بدل اعتقاله من قبل الانتداب البريطاني، واستشهد عز الدين القسام وهو يحمل سلاحه في معركة شديدة، واستشهد القائد عبد القادر الحسيني وحيدا في قلعة القسطل، بعدما فضح القيادات العربية التي منعت عنه السلاح، لكن لم يحتلّ أحدٌ مكانة الختيار "أبو عمار" في تاريخ النضال الفلسطيني.
كان هذا المقدسي، الذي تربى في القاهرة غريبا تحت رعاية والده، يغالبه الحنين لأرض تغلغلت في روحه ووجدانه فقرر أن يحمل قضيتها ويكون هو هويتها بالعالم، اتصل بقادة النضال الوطني هناك وبدأ يدرس عقلية عدوه ليرسم خارطة طريق تحريرها، خرج مع كتائب الجهاد الإخوانية للدفاع عن فلسطين عام ثمانية وأربعين وانضم للقائد العام للجهاد المقدس عبد القادر الحسيني قبل استشهاده، فعاد مخذولا حزينا بعد ضياعها لكنه لم يفقد إيمانه بفلسطين من قلبه، ووصلت حماسته لزملائه في الجامعة ليصبح رئيس اتحاد الطلبة الفلسطينيين في جامعة الملك فاروق فيما بعد، وتخرّج والغضب يشتعل في قلبه، وتنموا بين أضلعه الثورة، يرفض أن تذوب قضية فلسطين في دهاليز السياسة الخبيثة لأنظمة ديكتاتورية عميلة للشرق والغرب، فانفجر بوجه العالم ليعلن أن فلسطين لشعب فلسطين أولا وأننا يجب أن نقود العالم في النضال لتحريرها بدل أن ننتظر الحرية والحقوق المدنية من أنظمة العالم؛ لأنه كان الأكثر إيمانا بقضية فلسطين.
زرعت هزيمة عام ألف وتسعمئة وثمان وأربعون بذور اليأس في الحركات والأنظمة وربما الشعوب العربية، حتى تقاعد العديد من القادة الفلسطينيين من النضال وسلموا بضياع فلسطين، وبدى لهم أن انضمام الضفة الغربية للأردن وغزة لمصر تحصيلا حاصلا ومستقبلا مقبولا للأراضي الفلسطينية، وأصبحت فلسطين أداةً لقمع الحكام الشعوب باسم الاستعداد لتحرير فلسطين، وجرعة مورفين تخدر الشعوب وتحد من سعيهم للخروج على السلطة وتغيير واقعهم المؤلم في هذه الدول، والكل يماطل ويسوّف في رفع الظلم عن أكثر من مئتان وخمسون ألف لاجئ شُرِّدوا ونهبت أرضهم، ثم خطر محدق يطوّقُ باقي فلسطين وربما الوطن العربي من النيل إلى الفرات، والأنكى أن هذه القضية أصبحت قضية إنسانية بحتة تتعلق بالمعونات الإنسانية لمن هُجّروا من أرضهم وسلبت ديارهم وليس قضية أرض مليئة بالحياة والتراث الإنساني والديني احتُلت واستبدلت بدولة مسخ لحثالة لفظتهم بلادهم تكون خنجرا في حلم الوحدة والتضامن العربي؛ لأنه امتداد لقادة عظام أثّروا وأَثْرُوا تاريخ فلسطين الحديث، ومن أعاد لفلسطين نهج المقاومة والنضال سبيلا للتحرر ورفع الظلم.
وانهارت مقاومة المحتل لدى الأنظمة لأن بقاءها أهم من رفع الذل عن شعب فلسطين وتحريرها، وتاه الفلسطيني بين التهديد والوعيد، واستقر اللاجئون في مخيماتهم بوصمة عارٍ لأنهم لم يموتوا في بلادهم دون مقاومة عندما هجم عليهم اليهود، واستمعوا لمن وعدهم بالعودة غدا أو بعد غد، فكان الموعد في الكويت للقاء نخبة من شباب عشقوا فلسطين واتفقوا أنها تستحق التضحية بالدم والروح بدل من الهتافات والخطابات والقصائد الرنانة العاجزة عن طرد ذبابة، فاتفقوا على التوجه نحو تحرير فلسطين كل فلسطين ولم يبالوا بأي عائق أو مثبط للهمة مهما كان، فبدأت العمليات العسكرية ضد المحتل، وكانت عيلبون وكان بيان الانطلاقة الأول واستقبله الفلسطينيون والعرب كطوق النجاة الذي انتظروه بكل لهفة خوفاً من الغرق في بحر النسيان والضياع، ولمّا ضاعت فلسطين وذلّت أنظمة الطوق العربي واحتُلت أراضيها وقف بالبندقية والأسلحة الخفيفة أمام المدفع والدبابة في معركة الكرامة فقتل من رجاله مئة لكن أحيى عزة الأمة وكرامتها؛ لأنه تبنى الحل العسكري وطبقه وتصدى للعدو بسلاحه حين تاه سواه على منصات الخطابة ومتاهات النصوص الأدبية ومؤامرات السياسة الخفية.
اعتمر أبو عمار الكوفية رمز النضال الفلسطيني بطريقته الخاصة منذ الستينات ولم ينزعها أبدا، وحين تولى رئاسة اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الوطني الفلسطيني خلفا لأحمد الشقيري، صعد منبر الأمم المتحدة يلبسها مع زيه العسكري يحمل غصن الزيتون في يد وبندقية المقاتل في يده الأخرى معلنا إنسانية قضيتنا ورفعتها واستعداد شعبه للنضال حتى آخر قطرة دم، وحين سئل وهو خارج من بيروت إلى تونس أين محطتك التالية قال: "فلسطين"، ولكم كانت نهاية الرحلة قريبة، وعاد إلى الوطن مهرولا ودون أي تفكير ليتنسم عبير فلسطين ولو لسلطة أكبر من الحكم الذاتي وأقل من الدولة، يُعترف بها رسميا وينكرها الجميع بعيدا عن الكاميرات، وبدأت العروض بدولة ومليارات مقابل تحقيق حلم إسرائيل بتصفية قضية اللاجئين والقدس لتنعم بالاستقرار والأمان، فكان سدا منيعا بوجه العالم أجمع، وبرغم كثرة المؤتمرات وضخامة الضغوطات إلا أنه وضع الثوابت والتزم بها دائما، وكانت انتفاضة الأقصى صفعة في وجه المحتل حين وقف الشعب الفلسطيني ضمن مجموعات منظمة للمرة الأولى حاملا سلاحه منذ الاحتلال الأول عام ألف وتسعمئة وثمان وأربعون، وقد شاركت جميع الأجنحة العسكرية للحركات السياسية فيها؛ لأنه تمسك بالثوابت رغم كل الضغوط ووقف مع شعبه دون النظر للعواقب.
استقبل الرئيس ياسر عرفات في معظم دول العالم، وشارك في العديد من المؤتمرات الدولية، وتم التفاوض معه كممثل للشعب الفلسطيني في الداخل وفي مخيمات اللاجئين، ومع ذلك حوصر أمام نظر شعبه والعالم قادة وشعوبا، دون أن يرف لهم جفن أو تتحرك فيهم مشاعر، وبرغم مرارة الحصار لم يستنجد بأحد، ولم يتنازل عن ثوابته حين لمّح الآخرون وأفصحوا باستعدادهم لذلك، وحين هدده عدوه بالاعتقال قرر أمام العالم أنه لا يمكن أن يعرض شعبه للذل وأن مصيره هو من يحدده بسلاحه الذي ما فارقه يوما، قيل له أن يغادر فلسطين دون رجعة فرفض، طلبوا منه تسليم مطلوبين داخل المقاطعة فرد بأنه لا يمكنه قطع جزء من جسمه دون أن ينزف، أعلنوا ساعة الصفر لتفجير مقره، فقرر شعبه التضحية بأنفسهم واحدا واحدا حتى تحريره، نام مع المحاصرين على الأرض وشاركهم الطعام وأمّهم بالصلاة زار الجرحى وضمد جراحهم، وواسى أهل الشهداء ودمعت عيناه معهم، واستبدل هتاف الهاتفين لحياته: على القدس رايحين شهداء بالملايين؛ لأنه كان واحد منا يتكلم لهجتنا ويشعر معنا، ويشاركنا بالقرار وكأننا نجلس معه في أي جلسة دولية أو محلية، يفتخر بأننا شعبه وبأنه قائدنا ويعتبر كرامتنا أثمن ما يقاتل من أجله ويدافع عنه.
نفتقده ... نشعر بأنه حولنا لا يزال يحمل همنا ويدافع عنا، لا زالت كلماته البسيطة تمس قلوبنا الحائرة، لا زلنا نقارن أي موقف سياسي لأي سياسي بمواقفه، فنشفق عليه من هول من يُقارنُ به، لا زلنا نقرأ كتاب حياته فقرة فقرة لنفهم حاضرنا ونرسم مستقبلنا، وهيهات.

أسامة نجاتي سدر