رحلت ياسر عرفات ، لكن رحيلك كان قسريّاً ، أرادوا لك الرحيل ، فأبيت الرحيل إلا شهيداً ، كُـثرٌ من أرادوا رحيلك ، فرحيلك مطلوب ، أمريكياً وصهيونياً ، إقليمياً ودولياً ، عربياً وفلسطينياً ، فقد كنت قائد شعب وقائد ثورة ، كنت تحث الخطى إلى القدس وعينيك ترنو إلى عكا وحيفا ويافا وصفد ، كنت تدرك أنّ القضية قضية أرض وشعب ، قضية وطن ، فكنت قائداً للمشروع الوطني الفلسطيني النقيض المطلق لمشروعهم الاستعماري الصهيوني الاستيطاني ، لذلك كنت شوكة في حلوق كل من أرادوا لك الرحيل .
رحلت ياسر عرفات ، فرحلت معك كوفيتك الرمز الفلسطيني ، فلم تعد الكوفية أداة نضال ومقاومة ، لم ندفن كوفيتك معك ، بل مزقناها إرباً إرباً وأودعناها لدى كل الذين شاركوا في قتلك ، فكم كانت ترعبهم كوفيتك ، كوفيتك التي كانت رمزاً لثورة شعب هدفها التحرر والحريّة ، فأوقفوها على كل الحدود فهي لا تملك تأشيرة عبور إلى مرافىء الحرية ، فهي مشبوهة ومتهمة بالإرهاب الدولي ومطلوبة للإنتربول الدولي ، لذلك مزقنا كوفيتك فاعذرنا ياسر عرفات .
رحلت ياسر عرفات ، ورحلت معك بزتك العسكرية ، حتى لا تذكرنا بالفدائي الذي صنع اللغم الأول لثورتنا التي انطلقت في الفاتح من كانون الثاني عام 1965، فبزتك العسكرية وكل لباسك العسكري هي قنابل موقوتة مسمار أمانها الشعب الفلسطيني ، ستنفجر في وجه الاحتلال في كل الأرض الفلسطينية المحتلة ، لذلك صادروا كل لباس عسكري فلسطيني حتى لا تنفجر ألغام الثورة في وجه الغزاة الذين احتلوا أرضنا منذ مائة عام فتحرق روايتهم الكاذبة المزورة .
رحلت ياسر عرفات ، ورحلت معك بندقية الثائر ، البندقية التي احتفظت بها مسدساً رشاشاً لا يفارقك في حلك وترحالك ، فيوم ذهبت إلى العالم تخاطبه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة وأنت تعتز ببندقية الثائر التي هي جزء من كينونتك قائلاً لهم ، لقد جئتكم بغصن الزيتون بيد وببندقية الثائر بيد فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي ، خطاب يدرك أهمية البندقية ، فهي بندقية ثائر وثورة ، ولا يمكن للثائر أن يسقط بندقيته من يده فهي صمام أمان الثورة ، وبقيت محافظا على بندقية الثائر بيدك حتى آخر لحظات حياتك ، لكنهم صادروا اليوم بندقيتك فأصبحت بندقية مطلوبة ومطاردة ومعتقلة ، فسقطت بندقية الثورة من يد الثائر ، وأصبحت بندقية عبثية ، وتم الإحراز عليها وخـُتم على زنادها بالشمع الأحمر ، ولم تعد بندقيتك حامية وجودنا الفلسطيني على أرضنا الفلسطينية ، وقد رحلت بندقية الثائر معك ياسر عرفات ، فمعذرة ياسر عرفات لم نستطع المحافظة على إرثك الثوري الفلسطيني .
رحلت ياسر عرفات ، ورحلت معك شعاراتك الوطنية الفلسطينية ، عالقدس رايحين شهداء بالملايين ، بالروح بالدم نفديك يا فلسطين ، كنت ترفض أن يفديك الشعب بدمه لأنك نذرت دمك فداءً لفلسطين ، فلم تعد دماؤنا اليوم فداءً لفلسطين ، لأنّ الشبل الشهيد فارس عودة لم يعد هو قائدنا الفلسطيني ، ولم تعد القدس قبلة الزهرات والأشبال ليرفعوا على مآذنها وكنائسها وأسوارها علم فلسطين ، فقد أصبحت القدس الموحدة عاصمة الاحتلال ، فأسفاً منا ياسرعرفات فقد شطبنا من سفرنا اليومي شعاراتك الوطنية الفلسطينية .
رحلت ياسر عرفات ، ورحلت معك جماهير شعبك ، فأنت الشعبوي الذي لم تكن حريصاً على مصالح شعبك وحقوقه ، فقد أضعت شعبك وأنت تحرص على لقائه كل يوم حيث كنت تذكي فيه شعلة الثورة والنضال والمقاومة ، فلم تكن قبلاتك لأيدي أبناء شعبك أكسير حياة لهم بل كانت وباءً عليهم فرحلت جماهير شعبك معك ، لأنك كنت منهم وكانوا منك ، لأنهم اليوم أصبحوا عالة عليهم فتخلصوا منهم ، فلم يعد يسمعوا خطابك الوطني ، ولم يعد يروك صباح مساء ، وكأنّ كلام أحد المسؤولين العرب للرئيس الأمريكي ريغان عام 1982 : أننا لا نقبل أن يقوم ياسر عرفات في بلدنا بزيارة عشرين مخيماً وإلقاء خمس خطب في يوم واحد ، لذلك يحاكمون اليوم شعبيتك ويسيئون إلى خطابك الثوري فاعذرنا على ذلك ياسر عرفات .
رحلت ياسر عرفات ، فرحلت الثورة الفلسطينية معك ، وانكفأ الفلسطينيون فيما بعضهم يتقاتلون ، انقسموا فلا مصالحة بينهم ، وأصبح الكل يلعب على أرضهم وهم الكرة التي يتقاذفها الجميع ، فلا تسمع منهم إلا جعجعة فطحينهم خراب ودمار وانهيار ، فعذرا ياسر عرفات على عشقنا الانشقاق والانقسام والإنفصال والتفرق ، فالوحدة الوطنية وهمـٌنا اليومي الذي نعيشه صباح مساء .
رحلت ياسرعرفات عنا ، ورحلنا نحن عنك إلى الوهم والضياع ، فعذراً منك ياسر عرفات .
بقلم/ صلاح صبحية