بعد مائة وعشرون عاماً على تأسيس الحركة الصهيونية، وتكشف كثير من الحقائق عن المراوغة والتمويه والتضليل اليهودي الذي مارسه قادة الحركة الصهيونية، والحاخامات اليهود، والطوائف اليهودية المختلفة، بشكل جعل توزيع الأدوار بينهم وكأنه خلاف وليس اختلاف في الأسلوب والوسيلة، لتحقيق الغايات والأهداف اليهودية وليس الغربية في وطننا، كما صورها لنا كثير من الكتاب طوال الحقبة التاريخية الماضية، ظننا أن الأمة اقتربت من حقبة زمنية جديدة من حقب الصراع، بدأت تودع معها تلك المفاهيم والرؤى والتصورات التي أنتجتها لنا القراءات الأيديولوجية الانتقائية العلمانية لمجمل قضايا صراع الأمة مع عدوها اليهودي – الغربي، وتسببت في ما آل إليه حال الأمة، وتصحح كثير من أخطاء الماضي حول الحركة الصهيونية وعلاقتها بالدين اليهودي!
إلا أننا رغم تكشف الكثير من الحقائق حول حقيقة موقف الصهاينة الذين اعتبرهم السواد الأعظم من كتابنا أنهم ملاحدة وعلمانيين، مازال الكثير من الكتاب وحملة الشهادات العلمية والألقاب الكبيرة يعيدون إنتاج الماضي نسخ لصق دون النظر فيه، أو التوقف مع بعضه بعد أن تكشفت كثير من الحقائق، وأصبح بين أيدينا تاريخ طويل ورهيب من الممارسات والأفعال التي قام بها اليهود المغتصبون لفلسطيننا تدل وتؤكد على حقيقة هويتهم الدينية، ولا أقصد هنا الكتاب المهزومين، الذين تحولوا إلى مرتزقة، وإلى أبواق مأجورة، عند عدو الأمة من أجل حفنة من الدولارات، ولكن أقصد بعض أو كثير من الكتاب الذين يدافعون عن قضايا الأمة من منطلق الالتزام الوطني أو القومي أو الإسلامي، ولكنهم لا زالوا حتى اليوم يصرون على التفريق بين اليهودية كدين، ويدافعوا عنها، وبين الصهيونية كحركة سياسية مرتبطة بالاحتلالات الغربية، وجزء منها أو خادمة لها، معتبرين أن الدين اليهودي لا علاقة له بالصهيونية، ويعملون جهدهم في مرحلة حاسمة وخطيرة من مراحل الصراع على القدس والمسجد الأقصى، أن يبرؤوا الدين اليهودي من سياسة كيان العدو الصهيوني التي تسير بسرعة غير مسبوقة نحو استكمال تهويد القدس وهدم المسجد الأقصى، لتحقيق غايات دينية، وأحلام يهودية، بقيت تحملها قلوب يهودية مريضة آلاف السنين، بدء من حلم العودة واغتصاب فلسطين، إلى تهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى وإعادة بناء ما يزعمونه هيكل سليمان، توطئة لبعث مسيحهم اليهودي الذي سيحقق لهم السيادة العالمية، التي تمثل عندهم نهاية العالم والحياة الآخروية في عقيدة الكثير من الطوائف اليهودية.
لذلك لا أريد الدخول في جدل حول هذا الموقف أو ذاك، ولكني أريد فقط أن أطرح على أولئك الكتاب، وأكثر منهم على علماء الأمة، لأنهم هم الذين يقع عليهم واجب تفسير آيات القرآن الكريم ذات العلاقة بالصراع، والتي قد تحمل في ظاهرها معاني قد يتلبس فهمها على بعض الكتاب من المسلمين الذين انطلقوا في دراسة الحركة الصهيونية من منطلقات علمانية، تفصل بين الدين والسياسة وشئون الحياة، لذلك قبلوا اليهودية (ديانة سماوية) والحركة الصهيونية حركة علمانية سياسية لا علاقة لها بالدين اليهودي! ورفضوا الربط بين عقائد وأفكار وممارسة اليهود الصهاينة التي جميعها تؤكد إيمانهم الديني اليهودي، وبين الدين اليهودي الموضوع في بابل، وأجهدوا أنفسهم، وأجهدوا الأمة من ورائهم، في البحث عن تفسيرات تنفي عنهم صفة التدين، أو الإيمان بالدين اليهودي.
وعلى نفس المنوال سار بعض الإسلاميين ممن لم يتوفر لهم نصيب من البحث والدراسة في تاريخ اليهود واليهودية والصهيونية، والقدرة على تمحيص صحة أو خطأ قراءات وآراء الكتاب من أبناء وطننا من ذوي التوجهات الفكرية العلمانية، التي فصلت بين الصهيونية كحركة سياسية وبين اليهودية كدين، لأسباب عدة تختلف من تجاه لآخر، ولم يدرك الكثير منهم أن اليهودية كدين هي في الأصل مجموعة من الغايات السياسية ألبسها كتبة التوراة لباس الدين. أو لأنه غاب عن كثير من الكتاب عند استخلاص نتائج أبحاثهم ودراساتهم أن يربطوا بين الآيات القرآنية ذات العلاقة بالصراع وبين تلك النتائج، وأعادوا إنتاج كتابات واستنتاجات من سبقهم كما هي نسخ لصق!
سأحاول إثارة بعض التساؤلات حول معاني بعض الآيات القرآنية ذات العلاقة بالصراع مع العدو الصهيوني والغرب، راجياً من علماء الأمة الكرام والأفاضل الذين يجدون لديهم غيرة على الدين، ولديهم القدرة أن يقوموا بواجبهم في توضيح ذلك للمختصين وغيرهم من أبناء الأمة، وأن يساهموا بجهدهم العلمي في فض هذا الخلاف حول حقيقة علاقة الصهيونية باليهودية كدين، وتصحيح الرؤية الإسلامية للصراع عند كثير من الإسلاميين الذين لا يجدون غير الرؤية العلمانية التي تفصل بين الصهيونية والدين اليهودي، وتعتبر الصهيونية (مشروع استعماري) واليهودية (دين سماوي) لا علاقة له بالصهيونية، إن لم يكن معارضاً لها عند بعض الكتاب.
العلاقة بين الدين والإيمان
كتب (بول رينكو): "الدين هو استلاب الإيمان"! وقد علق على هذه العبارة الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، في كتابه "العولمة المزعومة الولايات المتحدة طليعة الانحطاط" بقوله: ذلك أن كل دين هو الإيمان المعبر عنه في لغة ثقافة ما. وما نطلق عليه بأزمة الدين، هو في الواقع أزمة الثقافة التي يعبر الدين عن ذاته من خلالها. وانتهى إلى القول: "أن العقيدة هي طريقة في التفكير، وأن الإيمان هو طريقة في العمل". هذا الفهم للعلاقة بين الدين كعقيدة والإيمان كعمل وسلوك لا يختلف عن المفهوم الإسلامي، وهنا لا أريد الدخول في المعنى الحرفي لغوياً وشرعياً لمعنى الإيمان في الإسلام، ولكن أتحدث عن الفهم والمعنى العام. فالله تعالى ربط بين الإيمان والعمل في كثير من آيات القرآن الكريم، بقوله تعالى: "الذين آمنوا وعملوا الصالحات". كما أن الرسول صلَ الله عليه وآله وسلم ربط أيضاً بين الإيمان والعمل، فقال: "ليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل".
وما بين عبارة بول رينكو وتعليق جارودي عليها، وربط الإسلام ما بين الإيمان والعمل، نخلص إلى القول فيما يتعلق بالصهيونية: أن الديانة اليهودية هي العقيدة، وأن الصهيونية هي الإيمان والثقافة. بمعنى آخر: أن خرافات وأساطير التوراة هي العقيدة التي رسمت وشكلت نهج اليهودي في التفكير، وأن الصهيونية وممارستها العملية ونهجها السياسي هي الإيمان والثقافة المعبرة عن ذلك الدين. وقد تجلت ذروة الإيمان الصهيوني بالدين اليهودي، والتعبير عنه ثقافة وممارسة، في انتهاج العنف والإرهاب والتطرف .. عقيدة وممارسة ووسيلة لاغتصاب وطن الفلسطينيين، وتهجيرهم القسري منه، وارتكاب المذابح والمجازر ضدهم لإبادتهم. وذلك تنفيذاً لأوامر الرب (يهوه)، تحت طائلة التهديد والوعيد بالمحق والإبادة لليهود إذا هم لم ينفذوا أوامر الرب بالقتل والإبادة للفلسطينيين واغتصاب وطنهم. ومرشدهم في ذلك أساطير التوراة وأكاذيبها عن القتل والإبادة التي قام بها حسب زعمهم أنبياء بني إسرائيل ضد القبائل التي كانت تسكن فلسطين في الماضي.
فقد جاء في (سفر التثنية:7/1 - 5) حكم الرب (يهوه) بإبادة كل القبائل العربية التي كانت تسكن أرض كنعان قبل قدوم بني إسرائيل إليها، توطئة لتحقيق وعده لليهود باغتصاب الأرض وتملكها: "1«مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا، وَطَرَدَ شُعُوبًا كَثِيرَةً مِنْ أَمَامِكَ: الْحِثِّيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، سَبْعَ شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، 2وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ، وَضَرَبْتَهُمْ، فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ (تقتلهم). لاَ تَقْطَعْ لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تُشْفِقْ عَلَيْهِمْ، 3وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بْنَتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ، وَبِنتْهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ. 4لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى، فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا. 5وَلكِنْ هكَذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ: تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ، وَتُكَسِّرُونَ أَنْصَابَهُمْ، وَتُقَطِّعُونَ سَوَارِيَهُمْ، وَتُحْرِقُونَ تَمَاثِيلَهُمْ بِالنَّارِ".
ويضيف في (الاصحاح نفسه، النص 16) مؤكداً على ضرورة القتل دون شفقة أو رأفة، لأنهم شعب مقدس وخاص للرب الذي اختارهم من بين كل شعوب الأرض لينفذوا أوامره ويطيعوا وصاياه، التي هي: "وَتَأْكُلُ (تستأصلون) كُلَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ الرَّبُّ إِلهُكَ يَدْفَعُ إِلَيْكَ. لاَ تُشْفِقْ عَيْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَعْبُدْ آلِهَتَهُمْ، لأَنَّ ذلِكَ شَرَكٌ لَكَ". فالأوامر الإلهية نحو سكان الأرض المحتلة هو القتل والإبادة الجماعية.
ويحذرهم في الوقت نفسه من عواقب معصية أوامره بالقتل والإبادة، فقد جاء في (سفر العدد: 33/ 56): "فَيَكُونُ أَنِّي أَفْعَلُ بِكُمْ كَمَا هَمَمْتُ أَنْ أَفْعَلَ بِهِمْ". ويتوعدهم في (سفر التثنية: 8/20): "كَالشُّعُوبِ الَّذِينَ يُبِيدُهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِكُمْ كَذلِكَ تَبِيدُونَ، لأَجْلِ أَنَّكُمْ لَمْ تَسْمَعُوا لِقَوْلِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ". ويوضح لهم الهدف من الإبادة لسكان الأرض الأصليين في (سفر العدد: 33/55): "َإِنْ لَمْ تَطْرُدُوا سُكَّانَ الأَرْضِ مِنْ أَمَامِكُمْ يَكُونُ الَّذِينَ تَسْتَبْقُونَ مِنْهُمْ أَشْوَاكًا فِي أَعْيُنِكُمْ، وَمَنَاخِسَ فِي جَوَانِبِكُمْ، وَيُضَايِقُونَكُمْ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ سَاكِنُونَ فِيهَا".
هكذا أسس الدين اليهودي طريقة التفكير الصهيوني، القائم على العنصرية والاستعلاء والحقد والكراهية ضد كل مَنْ هو غير يهودي، وأصل للعنف والإرهاب ضد (الجوييم) وسائل دينية مشروعة للقتل والإبادة والإرهاب، بل اعتبرها ذروة التقوى والعبادة للرب (يهوه) من أجل تحقيق غايات التوراة!
ومن يرجع إلى التوراة المُحرفة التي بين أيدينا يجدها طافحة بتلك النصوص، وكلها أوامر بالقتل والإبادة والاستئصال لسكان فلسطين تحديداً، وجوارها وإبادة كل ما هو غير يهودي بصفة عامة .. لذلك جاء نص وعد بلفور من التوراتيين البريطانيين يضع أسس إفراغ فلسطين من أهلها لتكون (دولة يهودية خالصة لليهود)، وذلك ما يطالب به العدو الصهيوني صراحة وحسم أمره عليه ليجعله أمراً واقعاً وسن قانون القومية! وعند الرجوع إلى تفسير أسباب العنف لدى اليهود الصهاينة عند الكتاب العلمانيين والإسلاميين الذين نقلوا عنهم؛ نجدهم يرجعونها إلى الصهيونية نشأت في الفكر الديني الغربي وليس في الدين اليهودي، وأن فكرة القومية اليهودية نشأت متأثرة بالفكر القومي الأوروبي في القرن التاسع عشر، متزامناً مع عصر الاحتلالات الغربية لوطننا والعالم، وما صاحبها من ممارسة للعنف لإخضاع الشعوب المُحتَلَة، وتأثر الفكر الصهيوني في ممارسته العملية بحكم نشأته في بيئة الفكر القومي الغربي بالعنف والإيادة أيضاً!
تلك القراءة الأيديولوجية الانتقائية للكتاب العلمانيين تتعارض مع أساليب البحث العلمي، ولا تتميز بالحيادية ولا الموضوعية ، واستنتاجاتها تخالف المنطق في زمن يرجع المؤرخون الغربيون فيه أسباب العنف وحروب الإبادة الغربية ضد الشعوب المحتلة؛ كانت تبررها أوامر الرب في ما يسمونه (الكتاب المقدس)!
مصطفى إنشاصي
التاريخ: 9/11/2018