ما أن تم نشر صورة العقيد أحمد أبو الرب وهو يصلح إطار سيارة عسكرية للاحتلال حتى تحولت الصورة إلى المادة الاعلامية الأكثر انتشاراً على وسائل التواصل الاجتماعي، وصاحبها تعليقات خرجت في معظمها عن سياق النقد ورفض السلوك لتدخل بوابة التشهير والتجريح، ولم تقتصر على شخصه بل مست المؤسسة التي يعمل بها وفي أحيان أخرى طالت العائلة التي ينتمي اليها الرجل، لم يسبق لي أن التقيت العقيد أحمد ابو الرب ولا أعرف شيئاً عنه، ولا أتفق مع ما فعله بغض النظر عن الدافع، سيما وأن المقاومة السلمية التي تحظى بشبه اجماع فلسطيني في هذه المرحلة بفعل المتغيرات الإقليمية والدولية تحتم علينا خلق حالة من الاشتباك اليومي مع الاحتلال، وانطلاقاً من ذلك كان الأجدر الذهاب إلى هذا المربع في التعامل مع الحدث، لكن الخطأ الذي وقع فيه العقيد لا يخول أي منا صلاحية القاضي ولا يمنحنا حقاً في توصيف فعله بالخيانة، سيما وأن ملابساته تحمل في طياتها ما لم تحمله الصورة، وتبقى الجهة المخولة بإدانته أو تبرئته هي القضاء العسكري والقانون يكفل له حق الدفاع عن نفسه.
ما يعنينا أكثر في الحادثة أنها كشفت لنا كم نحن مجتمع مأزوم، حيث استغلت حماس الصورة لتصل بحملة التشويه إلى المؤسسة التي يعمل بها الرجل وإلى التنظيم الذي ينتمي اليه، ولم يقتصر الأمر على أبناء حماس بل شاركهم في ذلك بعض أبناء حركة فتح كون الحركة لا تتبنى التنظيم الحديدي الذي يلزم أعضاءه، وفي المقابل أخذت الحمية أبناء فتح للبحث عن صورة مقابلة يصدون بها الهجوم ووجدوا ضالتهم في حكاية ضابط الشرطة في غزة والسمك الفاسد، وبذات الفلسفة لم يقتصر الهجوم على الضابط بل عملوا على تشبيك ذلك بالمؤسسة الشرطية التي يعمل بها والتنظيم الذي ينتمي له، الواقع الصحي يفرض على الفصائل الفلسطينية التنافس فيما بينها لتقديم الأفضل لشعبها وقضيته، لكن الواقع المرضي الذي نعاني منه والذي ينخر عظام الوطن أن كل منا بات يتصيد أخطاء الآخر، وبالتالي أداة القياس لم تعد تقديم الأفضل بل حجم الأخطاء التي يرتكبها الآخر، وبالتالي سخرت الفصائل الفلسطينية الجهد الأكبر من طاقتها الاعلامية ليس لفضح الاحتلال وسلوكه اليومي بل للبحث عن كل ما من شأنه تشوية الخصم السياسي.
لا يدرك البعض خطورة هذا السلوك على النسيج المجتمعي عامة والقيم الوطنية خاصة، فليس من المنطق الوطني في شيء أن نسهر على تقزيم وتشويه الآخر، كم هو محزن أن نجرد الناس من تاريخهم الوطني لمجرد أننا نختلف معهم، وكم هو مؤلم أن ننعت البعض بأقدح الصفات ونضعهم في خانة العمالة وخدمة الاحتلال في حياتهم ونحملهم بعد ذلك على الأكتاف حين استشهادهم، كنت بصحبة اللواء أحمد مفرج في مكتبه حين وصله اتصال من أفراد الأمن الوطني عند حاجز المطاحن يبلغوه بأنهم قاموا باحتجاز سيارة مستوطنين ضلت طريقها وينتظرون تعليماته في كيفية التعامل معها، لم يكن أمامه من خيار سوى أن يأمرهم بإعادة السيارة من حيث أتت وهو يعلم جيداً أن أجهزة الاتصال اللاسلكية مراقبة من قبل الاحتلال، اليوم التالي للحادثة خرجت مظاهرة تجوب شوارع خان يونس تصف اللواء "أبو حميد" بالخائن والعميل، لم يكلف أحد منهم نفسه بتقصي الحقيقة ودوافعها، ولم يشفع لهذا الرجل تاريخه العسكري الذي امتد لعقود عدة خاض خلالها العديد من المعارك ضد الاحتلال، ولم تقلل من حدة الهجوم عليه بذته العسكرية التي لازمته طيلة حياته حتى خيل لي وكنت قريباً منه أنه يخلد للنوم بها، ولم يتوقف هؤلاء عند الجرأة التي تحلى بها وهو يتقدم جنوده لمواجهة الاحتلال في توغلاته لمدينة خان يونس، وشاء القدر أن يسقط شهيداً أثناء توغل للاحتلال شرق خان يونس ومعه كوكبة من أبناء الأمن الوطني، وأعتقد أن توغل الاحتلال فجر ذلك اليوم لم يكن سوى لإغتيال اللواء "أبو حميد"، أثناء تشييع جثمانه كان الهتاف "بالروح بالدم نفديك يا أبو حميد".
حركة حماس تتهم حركة فتح بأنها تقوم على خدمة الاحتلال وفي ذات الوقت تبدي حرصها على الشراكة السياسية معها وتعتبرها أولوية لها، وحركة فتح تتهم حماس بأنها تعمل على تنفيذ أجندة الاحتلال وتؤكد على أهمية الشراكة السياسية معها في مواجهة المؤامرة التي تحاك ضد القضية الفلسطينية، ألن نكون بذلك قد وضعنا غالبية الشعب الفلسطيني في الخانة اللاوطنية؟، ألسنا مجتمع مأزوم أو على الأقل ندفعة لأن يكون كذلك؟.
د. اسامه الفرا