ما أسوأ رجال السياسة حين يخطفون الدين لتبرير أفعالهم أو شرعنة ما يقومون به! وليس أسوأ منهم إلا رجل الدين حين يحاول أن يستخدم سطوة الدين من أجل مآرب سياسية. وجهان لعملة واحدة، وربما يصعب الفصل بينهما إلا بمقدار الفروقات الشخصية في جعل ما يقومون به طبيعياً. من المؤكد أن هذا ليس مقصوراً على واقعنا العربي والإسلامي، إذ إن الشكوى من تدخلات رجال الدين في السياسة واستغلالهم لمكانتهم في الهيمنة على الناس ومقدرات البلاد سبقت بكثير ظهور الديانات الثلاث، وهي ارتبطت بالأساس بما يتمتع به الدين من مكانة وقوة تأثير في المجتمعات التي تؤمن به. وشهد التاريخ نضالاً وكفاحاً وصلا في بعض المناطق إلى الدماء من أجل التخلص من تدخل رجال الدين في الحياة العامة. ولم يكن يوماً ثمة مطالب بالتخلص من الدين حتى في أكثر الحالات تطرفاً، بل كان القصد هو رفع يد رجال الدين عن حياة الناس. وربما العكس كان دائماً مصدر انطلاق مثل هذه الدعاوى، حيث كان يتم التأكيد على ما يتمتع به الدين من مكانة وأهمية في حياة الناس وضرورة حماية حق الناس في المعتقد وممارسة طقوسها وعبادتها بحرية ودون تدخل من أحد، وبات من مهام الدولة المعاصرة الخدماتية العمل على توفير دور العبادة من أجل الرضا الديني والنفسي عند المواطنين حتى يقوموا بواجباتهم الدينية على أكمل وجه.
كنت أفكر في الكثير من كل ذلك فيما خطيب المسجد يوم الجمعة يعيد تركيب التاريخ وتأويل آيات القرآن الكريم حتى يقول لنا: إننا يجب أن نسلّم بأننا لا نعرف كل شيء وأن ثمة أقدار مخبأة يعرفها الله ويعرفها التقاة والورعون ونحن لا نعرفها، وهذا لا يعيبنا ولا ينتقص من فهمنا ولا من إيماننا، بل يؤكد المشيئة الإلهية بأن الخير لا يعرفه إلا الله، وفي حالة خطيب المسجد ويعرفه أيضاً من ينصبون أنفسهم أوصياء السماء على الأرض، رجال الدين والساسة من شاكلته. هذا القدر الذي لا نملك رده هو خير لا نعرف قيمته، ونحن عاجزون عن الوقوف على مقاصد السماء من ورائه.
هل يشير لكم هذا إلى شيء؟ قبل الولوج في تفاصيل من قال، كان واضحاً من أول كلمة نطق به بعد أن استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وبسمل وحوقل وذكر الرسول الكريم والسلف الصالح أنه يشير إلى ما جرى من تصعيد وهجوم عسكري همجي إسرائيلي علي شعبنا في غزة وبعد ذلك التهدئة التي تم التوصل لها بواسطة الوسطاء. لم يذكر الأمر، لم يأت عليه بكلمة، لكن أصغر طفل في المسجد فهم بأنه يشير إليه. المصلون وقفوا بعد الصلاة دقائق معدودة وهم يتندرون عليه ويتغامزون وهم يشيرون إلى الخطبة التي أراد بها أن يقول لنا: إننا لا نعرف الصواب من الخطأ ولا الشر من الخير، وإننا لا نعرف مصلحتنا، وأن علينا أن نسلّم بكل ذلك.
استحضر الرجل المقدس قصة سيدنا الخضر مع نبي الله موسى ليصنف كيف ننظر إلى خير نظنه خيراً وهو خير، وخير نظنه شراً وهو خير، وشر نظنه خيراً وهو شر، وشر نظنه شراً وهو شر. هكذا ببساطة يمكن تلخيص الأمر: هناك ما يقع لنا ويكون لمصلحتنا ولا ندرك ذلك، لكن الله والعارفين يدركونه، وهناك ما يقع لنا ولا يكون لمصلحتنا ونظن أنه لمصلحتنا، وهناك ما يقع لنا ولا يكون لمصلحتنا ونعرف أنه لمصلحتنا. القرآن الكريم مليء بالعبر والقصص التي تؤكد ذلك، وليست قصة الخضر التي استلها من قدر لا نعرفه إلا خير دليل على ذلك. اجتهد وهو يشرح لنا كيف قام الخضر ببناء الجدار المخبأ تحته كنز الغلامين في القرية التي رفض أهلها إفادته وكيف خرق السفينة لمساكين يعملون في البحر وقتل غلام الزوجين الصالحين. في الحالة الأولى كان الكنز لرجل صالح خبأه لغلاميه فبناه حتى لا ينهار ويسرق الناس كنزهما، وفي الحالة الثانية خرق السفينة حتى لا يأخذها الملك، وفي الحالة الثالثة كان لا بد من قتل الغلام حتى لا يفسق ويتعب والديه الصالحين. وفي كل الحالات فإن من يقع لهم الأمر لا يعرفون كل ذلك، يعرفه فقط الخضر.
شيخنا ابتهل وهو يستذكر الأم الصالحة المؤمنة التقية الورعة التي حزنت وبكت على مقتل غلامها لأنها لم تعرف أن قتله في مصلحتها وهو قدر يجب أن تحبه وإن كان مكروهاً لها. استحضار الجزء الذي لا نعرفه في القصة كان مهمة سهلة لأنه يعني نسج ما يريد الشيخ وفق أهوائه. فالمرأة صالحة، وهو يعيد التأكيد على ذلك، ولا بد أنها حزنت لمقتل غلامها، وهذا حقها فهي لا تعرف ما الخير الذي أراده الله وسيدنا الخضر لها من وراء ذلك. النتيجة أن حزنها غير مهم وبكاؤها لا يجب أن يدفعنا للاعتقاد بعدم جدوى ما حدث من قتل غلامها، ومرة أخرى لم ينتقص هذا من إيمانها ولا من جزائها عند الله.
بكلمات أحد المصلين عقب الصلاة، فنحن "أم الغلام" دون أن يصرح الشيخ بذلك. نحن الذين لا نعرف مصلحتنا ولا نتلمسها مما جرى في التصعيد وفي التهدئة التي أعقبته. وهو يؤكد أننا صالحون لكننا لا ندرك منافع ما جرى. يشبه هذا ما قاله نتنياهو في تعليقه على استقالة ليبرمان وسجاله معه حول أن القائد يتصرف بحكمة ولا يتصرف وفق مشاعر الناس. اختلف الفلاسفة حول الساسة والأخلاق من أرسطو إلى ميكافيلي، إلا أن ثمة حداً أدنى من احترام عقول الناس يجب أن يتوفر في كل الحالات، وهو ما غاب عن عقل الشيخ وهو يواصل هجومه على عقلنا في خطبته العصماء.
بقلم/ عاطف أبو سيف