سريعة وعميقة جاءت ارتدادات الفشل الإسرائيلي في الجولة الأخيرة والقصيرة من المواجهة. كان من الممكن أن ينتهي الأمر بعد أن دفع أفيغدور ليبرمان، الثمن من خلال تقديمه استقالته من موقع لا يستحقه في الأساس وهو وزارة الدفاع.
غير أن اندلاع الأزمة في المجتمع الإسرائيلي بكل مكوناته ومؤسساته أظهر مدى هشاشة الائتلاف الحاكم، رغم ما يبدو عليه من استقرار وقوة. كان لنتنياهو أن يتباهى بنجاحاته في مجال التطبيع مع بعض الدول العربية، التي تتجاوز المحرّمات والقرارات الجماعية، وأن تتجاوز أولوية القضية الفلسطينية على ما سواها من قضايا واهتمامات وأزمات تضرب المنطقة، وتهدد ما تبقّى من النظام العربي الرسمي.
لقد عرف نتنياهو كيف يستثمر إلى أبعد حد السياسة الأميركية، المتبنية للسياسات والمخططات التوسعية الإسرائيلية، وتقلب الطاولة على مبادرة السلام العربية لفرض ما يسمى صفقة القرن، غير أن نتنياهو لم يجد أجوبة مناسبة للأسئلة الفلسطينية، التي تقاوم تلك الصفقة.
يعتقد نتنياهو أن الوقت والظروف المصاحبة للانقسام الفلسطيني، وتداعياته على مستوى القوة الفلسطينية، وعلى مستوى التزام العرب والمسلمين بالقضية الفلسطينية والحقوق، أن الوقت والظروف تشكل عاملاً مساعداً ومسهلاً، لتنفيذ الأطماع الصهيونية.
ليس من المعقول أن يعتقد البعض ولو للحظة واحدة، أن المقاومة في غزة، قد كسرت ميزان القوى، وأنها حققت الردع القادر على لجم وهزيمة القدرة العسكرية الإسرائيلية الهائلة.
صحيح أن المقاومة حققت إنجازاً في الجولة الأخيرة القصيرة من التصعيد وأنها هزّت بقوة صورة إسرائيل القوية، وأدخلتها في أزمة كبيرة قد تطيح بحكومة اليمين المتطرف، الذي سيعاود في أي انتخابات قادمة مبكرة أو في موعدها الطبيعي، لتسلم زمام الأمور بحراك متباين بين أطرافه لكن الأمر لا يعود في الأساس لتغير موازين القوى بقدر ما انه يتعلق بارتباك الخيارات الإسرائيلية.
طموحات إسرائيل وسياساتها ومخططاتها، التي اعتمدت خط المحافظة على انقسام الفلسطينيين، بين غزة والضفة، لسحق فكرة الدولة الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية، تلك الطموحات، تشكل قيداً على إسرائيل.
ثلاث حروب على غزة، تعمّدت إسرائيل خلالها، إضعاف قوة المقاومة المسلحة، وإغراق القطاع في المزيد من الأزمات الحياتية انتظارا للحظة التي يصبح فيها البعد الإنساني هو أساس التعاطي مع قطاع غزة، ونحو دفعه بعيداً عن الضفة، وتأهيله لأن يكون مقر الكيان الفلسطيني. لم تخض إسرائيل ولا واحدة من تلك الحروب لتحقيق هدف إقصاء حركة حماس عن السلطة في غزة، أو لإلحاق الدمار الكامل بالمقاومة وبنيتها التحتية والفوقية.
اليوم، وإذ تعتقد إسرائيل "أن اللقمة بلغت الفم"، من خلال استغلال البعد الإنساني لتحقيق أهداف سياسية إسرائيلية، تجد نفسها عاجزة عن الاختيار، ومنقسمة على نفسها إزاء كيفية التعامل مع قطاع غزة. يصر بنيامين نتنياهو على أن فتح ملف قطاع غزة على إعادة التأهيل في إطار صفقة القرن، هو الطريق الأقل تكلفة والأقصر زمنياً، ولذلك فإنه فرض على الحكومة الإسرائيلية، المضي قدماً في الاستجابة لوساطات التهدئة المتدرّجة.
وقد تجاهل رئيس الحكومة الإسرائيلية، إلحاح كل من نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان، ودعوات المستوطنين، لضرورة تغيير هذه السياسة في التعامل مع غزة باتجاه استخدام القوة.
في الواقع فإن الجولة الأخيرة من التصعيد المحدود والمحسوب أظهرت أن ثمة غالبية كبيرة في الشارع الإسرائيلي وبين القوى السياسية سواء في الحكومة أو المعارضة، تعارض سياسة نتنياهو وتدعو للانتقام من غزة.
مباشرة بعد انتهاء الجولة الأخيرة اندلعت الاحتجاجات والتظاهرات من قبل المستوطنين على سياسة الحكومة، وأظهرت استطلاعات الرأي أن نحو 70% من المستطلعة أراؤهم غير راضين عن أداء، حكومة نتنياهو تجاه غزة.
لا بل أن نتنياهو لم يعد قادراً على لملمة صفوف حكومته والمحافظة على استقرارها، فعدا أزمته مع ليبرمان وبعدها مع بينيت، فإنه يواجه موقفاً قوياً من حزب "كولانو"، وزعيمه كحلون الذي يدعو إلى انتخابات مبكرة ما لم يوافق نتنياهو على رفع ميزانيات الشرطة والصحة. معظم الأحزاب في المعارضة والحكومة ترى مصلحتها في إجراء انتخابات مبكرة، وبعضها يتطلع لخلافة نتنياهو في رئاسة الحكومة.
في الواقع فإن نتنياهو يريد استقرار الحكومة، لعام كامل حتى الموعد الطبيعي للانتخابات في تشرين الثاني العام القادم، حتى يستثمر هذا الوقت الثمين في تنفيذ مخططاته التوسعية وتحقيق أهداف استراتيجية في ظل وجود الرئيس الأميركي ترامب الذي يوفر له هذه الفرصة.
إذا أراد نتنياهو أن يحافظ على ائتلافه فإن عليه أن يقدم تنازلات مهمة لشريكه بينيت الذي يرغب في وزارة الدفاع، وشريكه الآخر كحلون، ذلك أن بديل استقرار الحكومة إضاعة الوقت، سواء اتجه نحو حرب أخرى على غزة، غير معروفة أهدافها، أو بقي على خط التهدئة. لكن الخطر الداهم ناجم عن احتمال الاختيار بالذهاب إلى سفك الدماء في غزة، طالما أن الوقت ضائع في كل الأحوال باعتبار ذلك السبيل لشراء أصوات المجتمع الإسرائيلي المتطرف، ولترميم صورة إسرائيل المهزوزة مع ما ينتظر ذلك من تداعيات صعبة.
بقلم/ طلال عوكل