المال لبن السياسة!

بقلم: ناجي شراب

هذه المقولة تنطبق على كل سياسات الدول ، وكل الفواعل الدولية من غير الدول. وفي الحياة العامة عادة ما يقال المال قوة ، حتى في الدين جاء ذكر للمال. فالمال عصب الحياة، الكل يلهث وراءه، ويقال أيضا المال يشتري كل شيء. عبارات كثيرة تلحق بالمال دلالة على قوته في تحقيق المطالب ، وتحقيق الرغبات.

هذه المقولة لها أوجه كثيرة ، وتوظفها كل النظم السياسية الديموقراطية والديكتاتورية الشمولية، وحتى الجماعات والحركات توظف المال في شراء حاجة الفقراء للمال.

ويقال في السياسة الأمريكية عادة المال «لبن السياسة» ، وقد توفر البيئة السياسي الأمريكية بيئة صالحة لتأثير المال ، وذلك إشارة لما يلعبه المال في تحريك السياسة الأمريكية على الرغم من ديموقراطية النظام وتقنين الإستخدام السياسي للمال، إلا أن النظام السياسي الأمريكي نظام مفتوح بمعنى كل شيء بالإنتخابات.

المواطن الأمريكي ينام ويستيقظ على الإنتخابات والإنتخابات تحتاج لنفقات مالية تتوفر لدى اللوبيات ورجال المال والشركات والأغنياء ـ ومن هنا مخرجات النظام السياسي الأمريكي لا بد وأن تعكس قوى المال في السياسة الأمريكية.

ولا يقتصر تأثير المال على النظام السياسي الأمريكي بل في كل النظم السياسية الغربية يلعب المال دوراً محورياً في التأثير على بؤر صنع القرار السياسي بما يخدم أصحاب المال ، وذلك في صورة قوانين معينة ، أو فرض ضرائب أو تخفيضها ، أو رسوم جمركية.

وبمقابل هذه النظم السياسية الديموقراطية قد يكون للمال تأثير أكبر في النظم الشمولية والديكتاتورية السلطوية، ففي هذه النظم تحتكر الدول وتمتلك المال. ويكون الإقتصاد تابعاً للسياسة، وتحتكر الدولة كل مصادر الثروة والمشاريع الإنتاجية، وتتحكم في مصادر المال، فالدولة من توظف، والدولة من تمنح الدعم المالي ، وهنا يعتبر المال سلاحاً قوىاً لضمان التأييد للنظام الحاكم، وحتى شراء المعارضة السياسية.

ويلتقى المال والسياسة عند دائرة مشتركة ، فالسياسة تعرف بأنها ممارسة القوة للتأثير على سلوك الآخرين لتتوافق تصرفاتهم ومواقفهم مع من يمارس القوة أي السياسة، والمال عنصر القوة الأهم، بل أنه يدخل في كل مكونات القوة الشاملة من صلبة وناعمة، فلا يمكن توفير النفقات العسكرية بدون المال الضخم ، ولا يمكن القيام بالمشاريع الإقتصادية بدون المال ، ولا يمكن التوظيف دون توفير الأموال اللازمة ، ومن هنا فإن المال عصب السياسة، وجهان لعملة واحدة. ونظراً لأهمية المال ودوره في السياسة فإنه يعتبر من أهم أدوات السياسة الخارجية التي توظفها الدول الغنية على الدول الفقيرة، وتربط بين دعمها المالي ومنحها المساعدات والمنح المالية وبين الموقف السياسي المطلوب منها ان تتبناه.

وقد تذهب مثل هذه الدول كالولايات المتحدة لتهديد المنظمات الدولية بسحب دعمها لها ولعل توظيف المال في السياسة الأمريكية واضح في علاقاتها بالسلطة الفلسطينية وربطت ذلك بالموافقة على كل القرارات السياسية الأمريكية وعدم الإعتراض عليها خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وربط هذه المساعدات بالموافقة على صفقة القرن، ولأن السلطة رفضت مسبقا هذه الصفقة أوقفت الولايات المتحدة كل دعمها لها، وأيضا سحب دعمها لوكالة الغوث بهدف إسقاط قضية اللاجئين الفلسطينيين.

ولم يتوقف تأثير المال على السلطة بل نرى صورة في الدعم الذي تقدمه دول كإيران وقطر لبعض المنظمات الفلسطينية، فليس هناك مال بدون مقابل، والحديث اليوم عن تهدئة تقدمها حركة حماس مقابل السماح للمال القطري أن يدخل غزة لدفع رواتب لموظفين ، هذا المال وهذه التهدئة لها ثمن سياسي ، قد يتمثل في صور كثيرة، هدنة مؤقتة تتحول لهدنة طويلة، وقد تتمثل في ضبط الحدود مع إسرائيل.

ويرتبط الدعم المالي لهذه الجماعات ان تمارس دوراً داعماً لأهداف الدول المانحة، وهي أوراق في يد هذه الدول والتلويح بها أنها قادرة على الضغط في إتجاه التسويات السياسية. بعبارة أخرى إيران مثلا تريد أن تقول للولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة سياسات العقوبات أنها تملك أوراق تمرير التسوية السياسية التي تريدها أمريكا.

ولا تتوقف صور المال السياسي على الدول والفواعل من غير ذات الدول بل أن صناديق النقد الدولية مثل صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي تقدم قروضها ومساعداتها ومنحها المالية وفقاً لشروط تطلبها من الدول، وهذه الشروط في الكثير من الأحيان تمس سيادة الدولة، وقد تقف وراء الكثير من الإحتجاجات التي تندلع فيها وتهدد بقاء النظام.

ولعل من أخطر صور توظيف المال خدمة لأهداف سياسية الدعم الذي تقدمه الدول الغنية للجماعات المسلحة والمتشددة والتي من خلالها تتحكم في بوصلة الكثير من الأزمات كما في سوريا. والجماعات المتطرفة بلا شك تقف ورائها معركة تملك المال.

وأخيرا للمال دور في مكانة الدول، فبحجم المال يكون حجم الدولة وتأثيرها في القرار السياسي الإقليمي والدولي. هذه هي الصورة السلبية لإستخدام المال.

لكن للمال صورة إيجابية وأخلاقية تتمثل في المساعدات الإنسانية التي تقدمها الدول الغنية للدول الفقيرة، والمساعدات أوقات الكوارث الطبيعية، وتتمثل في بناء المدارس والمستشفيات وإعادة الحياة للمنكوبين والفقراء في العديد من الدول، هذه الصورة الأخلاقية نلمسها في السياسات والدعم الذي تقدمه العديد من الدول العربية النفطية وغيرها من الدول كالإتحاد الأوروبي .

بقلم/ د. ناجي شرّاب