ليس مثلك يا رسول الله أحدٌ من الخلق، فأنت سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، والمبعوث رحمةً للعالمين، والشاهد على العباد يوم الدين، سادن البيت الحرام، وآمر الحوض الأكبر وصاحب الكوثر، أول من ينشق عليه قبره، ويبعث من موته، له أبواب الجنة تفتح والسماوات السبع بعروجه تسعد، قد اجتباك الله وانتقاك، وتكفل بك ورعاك، وحفظك من كل سوءٍ وأعطاك، وأنزل عليك الكتاب وعلمك، وأيدك بالقرآن وأدبك، ورفع بالإسلام قدرك وشرح به صدرك، فكنت الرسول الأكرم والنبي الأشرف، صليت بالأنبياء والمرسلين في الأقصى إماماً، وتجاوزت الأمين جبريل إلى سدرة المنتهى قدراً ومقاماً، وتشرفت برب العزة إذ خاطبك، فكنت صاحب الحظوة والمكانة والدرجة العالية الرفيعة، التي لا يحلم بمثلها ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌ مرسل، فأعظم بك يا حبيب الله رسولاً ونبياً، بك نتشرف وإليك ننتسب، ولدينك نتبع، ونشهد ألا إله إلا الله وحده، وأنك رسوله الأكرم، ونبيه الأمجد، خير من سكن الأرض وأشرف من طلعت عليه الشمس.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله وحبيبه، وصفيه من خلقه وخليله، ما أحوجنا إليك، وما أشد حاجتنا إلى سنتك، وما أعظم حنيننا إلى نهجك، وما أسمى أمانينا معك، وما أجمل أيامنا وأفضل زماننا بصحبتك، وما أسوأ حالنا بدونك، وما أشقانا من غيرك، وما أضلنا بعيداً عن دينك، وما أضعفنا بغير كتابك، وما أهوننا على الناس من بعدك، وما أتعسنا إذا انتسبنا لغيرك، وما أضلنا إذا اهتدينا بسواك، فقد سدنا يوم كنا معك، وتقدمنا عندما اتبعنا سنتك، وأصبحنا سادة الأمم عندما حملنا رسالتك، وآمن بنا الناس وصدقتنا الأمم يوم أن روينا أحاديثك، ونقلنا سيرتك، واقتفينا أثرك وعملنا بسنتك.
لكننا اليوم يا رسول الله في حالٍ سيئٍ وواقعٍ تعيسٍ، وحياةٍ مذلةٍ وظرفٍ بئيسٍ، تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، اجتمعت علينا واتحدت ضدنا، وتآمرت علينا ونالت منا، ونهشتنا وألقت بنا، وفرقت بيننا وتغلبت علينا، وأشعلت بيننا الحروب وجلست تتفرج علينا، وساعدها كثيرٌ من بني جلدتنا ومن أهل ملتنا، ممن خانوا أماناتهم وانقلبوا على عهودهم، وتآمروا على أمتهم ولم يحفظوا دينهم، فكانوا أداةً للتخريب ومعولاً للدمار، وسبباً فيما نحن فيه من تيهٍ وضياعٍ، وفرقةٍ وتشرذم، وضعفٍ وقلة حيلةٍ، إذ اشتركوا في الجريمة على أمتهم فكانوا للعدو شريكاً وسنداً، فخسروا أنفسهم وأهليهم، وفقدوا أملاكهم وبلادهم، وضيعوا حياتهم وأوطانهم، وبددوا ثرواتهم وخيراتهم.
لا يسرك يا رسول الله ما نحن فيه ولا يرضيك، فما كنت تظن يوماً أن يحل بأمتك ما أصابها، أو ينزل بها ما أهمَّها، فقد أصابنا السقم وحل بنا السأم، وفقدنا الطريق وأضعنا الهدف، وَحِدْنَا عن الصراط المستقيم الذي رسمته لنا، وابتعدنا عن الغاية التي حددتها لنا، فأصبحنا في آخر الركب وفي أذيال الأمم، نلهث ولا نلحق، ونجري ولا ندرك، فاستعبدتنا القوى واستعمرتنا الدول، وسرق خيراتنا الأقوياء الظالمون، واعتدى علينا الفاسدون المجرمون، ولم يعد لنا حولٌ فنمنعهم ولا قوة فنصدهم، إذ عرفوا كيف يبعدوننا عنك يا رسول الله، وكيف يجعلوننا عن دينك غرباء، وللدنيا عبيدٌ وأجراءٌ، بعد أن زينوا لنا الضلالة وجملوا لنا الفسق، وصدروا لنا كل غريبٍ لا ينفعنا، وكل ضارٍ يفتك بنا، فضللنا إذ صدقناهم، وانحرفنا عن الحق وجادة الصواب إذ اتبعناهم.
يا رسول الله لم نعد من بعدك على خلقٍ عظيمٍ، ولم تعد أخلاقنا القرآن كما كانت أخلاقك وشهدت بذلك أم المؤمنين عائشة وصحابتك الكرام، فقد ساءت أخلاقنا، وتردت قيمنا، وتبدلت مفاهيمنا، وانحرفت سبلنا، وانحطت هممنا، وفقدنا النبل والشهامة، والصدق والشرف والأمانة، وأصبحنا نكذب ونسرق، ونخون ونغدر، ونعتدي ونظلم، ونفتك ونقتل، ولم تعد بيننا أواصرٌ ووشائجٌ، ولا محبة ولا تراحم، ولا أخوة رحمٍ ولا صلات قربى، إذ حكمتنا المنافع والمصالح، وسيطرت علينا الدنيا والمطامع، وتحكمت بنا الأهواء والفواحش، فَعَمّتَ بيننا الحروب، وسكنت بلادنا المطاحن، حتى غدت الدماء سيولاً، وصارت البيوت أطلالاً، وأصبحت المباني والمساكن ركاماً وخراباً.
يا رسول الله لم نعد نحن كما كنت فينا رحيماً بأمتك، محباً لها شفوقاً عليها، تحزن لأجلها وتبكي خوفاً عليها، ويضطرب قلبك حباً لها وشفقةً بها، بل أصبحنا قساةً عتاةً جفاةً غلاظ القلب، لا نرحم بعضنا ولا نحب أنفسنا، ونفضل العدو على أبناء ديننا وأهل ملتنا، حتى غدا الأعداء في بلادنا كرماء أعزاء، وأصبحنا نحن فيها غرباء أذلاء، وصرنا أشداء على بعضنا رحماء على غيرنا، نهرب من بلادنا، ونفر من أوطاننا، ونستجير بالعدو خوفاً من حكامنا، وطلباً للعدل والأمان من جور أنظمتنا، ونحن الذين نتبع النبي العربي الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق رحمةً للأمم ورسولاً إلى العالمين، هادياً ومبشراً ونذيراً، إلا أن بعضاً من أمتك يا رسول الله قد بدلوا وغيروا بعدك، وإني لأكاد أسمعك يا رسول الله تقول "سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي".
يا رسول الله نحن لم نعد الأمة الوسط التي أرادها لنا أن تكون خير أمةٍ أخرجت للناس، والتي تباهي بها الأمم يوم القيامة، وتفتخر بها بين يدي الله عز وجل في حضرة الأنبياء والمرسلين، فنحن لم نعد الأفضل ولا الأمثل، ولم نعد النموذج ولا المثال، بل صرنا مضرب المثل في الفسق والضلال، وفي الانحراف والفساد، وفي البغي والظلم، وفي الاعتداء والخيانة، وفي الكذب وفقدان الأمانة، وصارت صورتنا أمام الآخرين سوداء مظلمة، حالكة معتمة، لا قيمة للإنسان فينا، ولا قدر للمواطن بيننا، ولا قداسة للقيم ولا حرمة للحقوق والدم، ولا ضمانة للحريات والممتلكات، ولا صدق في الكلام ولا أمانة في التعامل.
محمدٌ يا رسول الله يا نبي الرحمة ورسول السلام، يا خير من وطئت الأرض قدماه، في يوم مولدك الأغر، وفي يوم ميلادك العظيم، نسأل الله الرحمة بأمتك، والرفق بأتباعك، والنجاة لأصحابك وإخوانك، ونرفع بعالي الصوت إلى الله بالدعاء ونجأر، أن أعدنا إلى نهج نبيك، وحصنَّا بكتاب رسولك، وأعدنا إلى المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، لنعيد مجد المسلمين وعزة الأولين، ونستعيد وسطية الأمة، ونكون فيها الأقوى والأفضل، والأكثر خيريةً ونفعاً، وصلى الله عليك يا رسول الله في الملأ الأعلى وفي أعلى عليين إلى يوم الدين، وعلى آلك الأبرار، وصحبك الكرام وأهل بيتك الطيبين الأطهار، ومن تبعك بإحسانٍ إلى يوم الدين.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 22/11/2018
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]