شهدت غزة على مدى يومين متتاليين تصعيدا عسكريا خطيرا توقع الكثيرون ان يتحول الى حرب شاملة بين اسرائيل وفصائل المقاومة في قطاع غزة. ولعل التعقيدات التي تميز المشهد السياسي في غزة، نظرا لامتداداته الإقليمية والعربية، في ضوء اصرار اسرائيل على ربط تنظيمات وحركات المقاومة في المنطقة مع ايران، التي أصبحت على اجندة الاستهداف الأمريكي، لذلك فقد سارع الكثير من المراقبين والمتابعين الى متابعة تلك التطورات في محاولة مهم لاستقراء الآفاق المحتملة، وإمكانية تدهورها لتكون الحرب الرابعة التي تشهدها المنطقة في غضون ١٠ سنوات.
وسنحاول في التحليل المرفق محاولة استقراء آفاق تلك التطورات نظرا لانعكاساتها المحتملة على القضية الفلسطينية برمتها. وسننطلق من دراسة إدارة المعركة من قبل كلا الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، ثم نبحث في الاهداف والنتائج التي سعى كلا الطرفين وصولا الى استعراض السيناريوهات المستقبلية المحتملة.
إدارة المعركة :
وفق الكثير من المؤشرات كانت عملية شرق خانيونس بمثابة الشرارة التي أطلقت موجة التصعيد الأخيرة التي شهدها قطاع غزة، والتي لم يكن هدفها تنفيذ عملية اغتيال احد قيادات المقاومة، الا ان المؤكد انها جاءت في إطار ما يمكن تسميته “مهمة أمنية سرية”، وهذا ما فرض علامات استفهام حول حجم الاختراق الأمنى الاسرائيلى لقطاع غزة وكيف توظف إسرائيل الهدوء أو التهدئة لتنفيذ مهمات أمنية بتلك الجرأة وبهذا الحجم، الا ان تلك العملية يمكن اعتبارها بمثابة “استطلاع بالنيران” ارادت من خلاله اسرائيل تحديد جاهزية المقاومة ودراسة مدى جاهزية القيادة السياسية لحركة حماس للذهاب بعيدا في استحقاقات اتفاقية التهدأة الجاري تنسيقها.
وبينما نجحت المقاومة الفلسطينية فى إدارة المواجهة العسكرية بحكمة في مواجهة اكبر قوة عسكرية فى المنطقة ووضعت معيارًا جديدًا ونجحت بإطلاق أكثر من 400 صاروخ، ليست صواريخ فردية، بل رشقات من عشرات الصواريخ وصلت احيانا الى ٥٠ صاروخا؛ بوتيرة سريعة ونحو عدة اتجاهات في الوقت نفسه، وبطريقة تتحدى بها القبة الحديدية. وعلى مساحة صغيرة نسبيا، وخلال فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز 10 دقائق.
وعلى سبيل المقارنة، خلال التصعيد الحالي تم إطلاق أكثر من 400 صاروخ نحوإسرائيل؛ وفي المقابل فقد كان سقوط ٢٠٠ صاروخ في يوم واحد خلال حرب ٢٠١٤ هو اكثر رقم تم إحصاؤه خلال تلك المعركة. وعلى الرغم من أن نطاق إطلاق الصواريخ كان أبعد خلال حرب ٢٠١٤، الا انه وفي الجولة الحالية تم إطلاق صواريخ لمناطق الجنوب فقط. وتلقت أشكول أكبر عدد من القذائف، أكثر من 100 صاروخ، 15 صاروخ أصاب تجمعات في المنطقة أو ما يحاذيها، 6 صواريخ أصابت مباشرة مصنعًا ومبانٍ سكنية في عسقلان، تجمعًا في المجلس الإقليمي “حوف اشكلون”، في “نتيفوت” و”سديروت”. واعترضت القبة الحديدية حوالي 100 صاروخ من غزة، حوالي ربع إجمالي عدد الصواريخ التي أطلقت نحو إسرائيل في الجولة الحالية. في عملية “الجرف الصامد” تم إطلاق 4,594 صاروخ، وفي اليوم الأكثر نشاطًا للقبة الحديدية اعترضت خلال العملية 44 صاروخًا. ونفذ الجيش الاسرائيلي، حوالي 200 عملية نحو أهداف في قطاع غزة، أبرزها تدمير مقر فضائية الأقصى التابعة لحماس، وفندق الأمل. بينما بل وصل الهجمات الأكبر في يوم واحد خلال حرب ٢٠١٤ لـ 346. وبلغ عدد المصابين الإسرائيليين لـ 55 في جولة التصعيد الحالية، من بينهم قتيل واحد، ثلاث اصابات خطيرة، أما الفلسطينيون فقد أبلغوا حتى الآن عن استشهاد 8 شهداء (١).
جاء الاستهداف الحذر للمباني السكنية التابعة لحركة لحماس، كرسالة ذات طابع “الحرب النفسية”، واشارة الى أنه على الفلسطينيين الا يعتقدوا ان عدم رغبة إسرائيل في تدهور الاوضاع الى حرب جديدة، ليست أمراً مطلقاً ولا يجب استثماره للركون إلى أن إمكانية التوسع إلى حرب جديدة غير واردة إسرائيلياً (٢).
من جهة أخرى ، أشارت تقديرات عسكرية الى ان المعركة الأخيرة كشفت عن ثغرات خطيرة في اداء الجيش الاسرائيلي، يمكن اختصارها في النقاط التالية :
١ – قذائف الهاون تبدو كمشكلة تجد اسرائيل صعوبة في التعامل معها. منذ سنوات يبدو أنه توجد صعوبة للجيش الاسرائيلي في مواجهة نيران مائلة المسار قرب الجدار في القطاع، وضرب خلايا الاطلاق. خلافا للصواريخ، معظم مدافع الهاون هي ثابتة ولا يتم تحريكها من مكان الى آخر اثناء القتال. اطلاقها المتواصل يمكن أن يدل على أن حماس قطعت شوط كبير في تطوير قدرات مجموعاتها المتخصصة في استخدمت مدافع الهاون (٣).
٢ – كان الهدف من الرشقات الصاروخية هو استنفاد مخزون الصواريخ الاعتراضية في لحظة معطاة في منظومة إطلاق ، الصواريخ الاعتراضية. وبحسب ما ذكره الجيش الإسرائيلي، فإن منظومة “القبة الحديدية” اعترضت 120 صاروخا كان يفترض أن تنفجر في مناطق مأهولة من بين 400 صاروخ أطلقت من قطاع غزة، ونحو 20 صاروخا أصابت مباني سكنية وزراعية وشوارع، وتسببت بمصرع شخص واحد وعشرات الإصابات. في المقابل، أكد الجيش أن الحماية بواسطة “القبة الحديدية” ليست كاملة، وأن الدمج بين الإنذار السريع نسبيا من قبل الجبهة الداخلية، وبين الانصياع لتعليمات الوقاية، من شأنه أنه يمنع وقوع إصابات، إلى جانب اعتراض الصواريخ (٤)
٣ – العقيدة العسكرية تقضي بابعاد مناطق دخول الوحدات الى خلف مدى المدفعية التكتيكية للعدو. في حالة حماس – مدى 5 كم من نيران القذائف. هذا الخلل يعود ويخلق انكشاف مبالغ فيه لنار المدفعية، وهذه المرة ايضا لكمين مضادات الدبابات، لقد كان يمكن التوقع من الجيش الاسرائيلي ادارة متشددة اكثر للحركة في المناطق القريبة من الجدار (٥).
أهداف اسرائيل وحركة حماس خلال المواجهة الأخيرة :
المواجهة لم تكن واضحة الأهداف من كلا الجانبين وإنما جاءت في سياق فعل ورد فعل . ولذلك كان من المستبعد ان تنزلق الأمور الى مواجهة شاملة أو حرب مفتوحة لا يرغب كلا الطرفين في الذهاب اليها. ولذلك فان هذه الموجة من التصعيد يمكن اعتبارها تمهد الطريق لإزالة العقبات أمام جهود التسوية التي سبقت هذا الموجة من التصعيد، لأن هناك الكثير لدى الطرفين مرتبط به.
على الصعيد الميداني لوحظ ان كلا الطرفين غير معني الدخول في معركة شاملة مفتوحة، فالفصائل الفلسطينية تنسيق يثير الانتباه حددت مساحة النار بعشرين كيلومتر، رغم ما تملكه من امكانيات تتعدى هذه المسافة بكثير. واسرائيل في قصفها للمواقع والمنشآت الفلسطينية، والتي كان اهمها قصف فضائية الاقصى، حرصت على اطلاق الصواريخ التحذيرية والتأكد من اخلاء المواقع المستهدفة من السكان.
ويمكن القول ان تحكم وضبط مجريات العمليات العسكرية من كلا الطرفين يدفع للاستنتاج بأن هذا التصعيد يخضع لحسابات عقلانية عند الطرفين لها علاقة بمصالح داخلية لدى كل طرف :
١ – على الصعيد الاسرائيلي الداخلي، وجد نتنياهو في غزة جبهة سهلة لينسي الرأي العام اتهاماته بالفساد، وأضحى حديث الحرب والهدوء والانتخابات وشكل الحكومة طاغيا. ونجح ليبرمان في تسليط الأضواء عليه كمتشدد كبير، وسوف تؤدي عملية استقالته إلى كسب المزيد من المؤيدين في الانتخابات المقبلة، مستفيدا من الاتجاه الشعبوي الكاسح في دول كثيرة. وبالطبع إسرائيل مهيأة لمزيد من الصعود لهذا التيار. وبالرغم من اعتبار حماس ان استقالة ليبرمان هو بمثابة انتصار للحركة في المعركة التي حدثت، الا ان التطورات الحاصلة في اسرائيل تشير الى ان التشدد والمزيد من اليمينية سيكون السمة البارزة التي ستميز المجتمع الاسرائيلي وحكومته المقبلة (٦) .
٢ – وعلى صعيد حركة حماس، فانها ارادت أن تبدد كل ما يُقال بأنها تخلت عن المقاومة، بعد الصفقة القطرية، وتتطلع للتخلص من التبعية الاقتصادية للسلطة الفلسطينية بما يضمن تحسين وضع غزة الاقتصادي، وبالتالي، القوة السياسية لحماس وسيعزز مكانتها عربيا واقليميا ودوليا. كل ذلك بدون الاضطرار الى التنازل عن ايديولوجيتها الوطنية – الدينية، ودون الالتزام بعملية سياسية أو الخضوع لشرط محمود عباس الاساسي الذي يطالب بنزع سلاحها ونقله الى قوات الامن الفلسطينية. كذلك هي لن تضطر الى التنازل عن جهازها الحكومي الذي انشأته في القطاع (٧).
٣ – مصلحة مشتركة لدى الطرفين لتمرير تسوية أو صفقة سياسية فشلت المفاوضات في تمريرها. خاصة وان نظرة إسرائيل لفكرة التهدئة وللاتفاق مع "حماس"، هدفها تعزيز الانقسام الفلسطيني وتحقيق مصلحة إسرائيل، واستمرار صلاحية الادعاء ان محمود عباس لا يمثل كل الفلسطينيين. لذلك، وجود حماس يوفر على اسرائيل الحاجة الى ادارة القطاع مباشرة، كما كان سيكون مطلوبا منها أن تعمل لو أنها احتلته مرة اخرى، بمعنى أن موقف إسرائيل من "حماس" والفصائل في غزة لم يتغير وهي فقط تلعب بالزمن لصالح مشروعها في الضفة الغربية، وتريد تحييد جبهة غزة مقابل بعض التسهيلات الإنسانية، المتعلقة بتحسين الظروف الحياتية للمواطنين في قطاع غزة دون الوصول الى الرفع الكامل للحصار ودون الوصول الى مرحلة السماح بإقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة تحت حكم حماس، كما يروج البعض.
نتائج المواجهة :
١ – تعرضت شعبية نتنياهو لهزة قوية بعد موجة التصعيد الأخيرة في غزة، ووجهت اتهامات لنتنياهو بالمسؤولية عن فشل سياسة اسرائيل تجاه غزة. بسبب رغبته في استمرار الوضع القائم ، هو مع حكم حماس لان كل البدائل لحماس غير ملائمة في نظره. وهو يمتنع عن احتلال غزة لانه لا يعرف ما يفعله بها في اليوم التالي؛ وهو يرفض اعمار غزة لانه لا يريد أن يكون مسؤولا عن العملية التي ستأتي من غزة بعد أن تعمر: وهو يمنع دخول السلطة الفلسطينية الى غزة لانه مريح له أن تبقى الضفة وغزة تحت سيطرة جسمين فلسطينيين مضعفين ومعاديين.
٢ – أعلن أفيغدور ليبرمان وزير الدفاع الاسرائيلي استقالته من الحكومة بسبب “تخاذل حكومة نتنياهو ورضوخها للإرهاب”، ودعا إلى تقديم الانتخابات بأسرع وقت ممكن. وقال أن ما نفعله عمليا الآن كدولة، هو أننا نشتري هدوءً لأمد قصير بثمن المس بشكل خطير بالأمن القومي للأمد البعيد، وأريد أن أذكّر بإدخال الوقود القطري، وفقط بعد إصدار رئيس الحكومة أمرا خطيا اضطررت إلى السماح بإدخال وقود قطري إلى القطاع”. وإدخال 15 مليون لغزّة. وتشير التقديرات ان استقالة ليبرمان هي بدء للمعركة الانتخابية القادمة حيث يسعى ليبرمان من خلال استقالته إلى تنصيب نفسه رمز سياسي يميني كي يمنحه جمهور اليمين أصواته في الانتخابات القادمة والعودة بقوة للساحة السياسية. وهذا ما كشفته استطلاعات الرأي الأخيرة أن ليبرمان استفاد من الاستقالة حيت ارتفع تمثيل حزبه (يسرائيل بيتينو) في انتخابات برلمانية ستجري بمقعدين اثنين، ليصل تمثيله في الكنيست إلى 7 مقاعد.
٣ – إجراء الانتخابات في هذه المرحلة لا يعني تغيير حقيقي في الخارطة السياسية والحزبية الاسرائيلية، فأحزاب اليمين ستظل تسيطر على المشهد السياسي الاسرائيلي، بقيادة الليكود. وبالتالي لن يتغير شيئ في سياسة اسرائيل العدوانية ضد الفلسطينين وارتكاب مزيد من القتل والدمار، ومصادرة الاراضي والتنكر للحقوق الفلسطينية وتعزيز الإنقسام الفلسطيني.
٤ – حماس اسرائيل، معنيتان بالتوصل الى اتفاق تهدأة ، فبينما ستساعد جولة التصعيد حماس في مفاوضات التهدأة، خاصة وأنها استطاعت ان تكسب المزيد من دعم وتأييد الرأي العام، الا ان اسرائيل ستظل متمسكة بالمبادرات الهجومية في تعاملها مع ملف التهدأة في غزة. وهو ما يعنى أن الأوضاع ستبقى على حافة الهاوية وقابلة للتصعيد فى أى لحظة (٨).
٥ – نجحت حماس في ترميم صورتها الداخلية، بعد أن اهتزت نتيجة ادخال “الأموال القطرية” لتسهيل استلام موظفيها رواتبهم، كما استطاعت حماس ترميم صورتها كقائدة “المقاومة”، عندما استطاعت ان تدفع سكان جنوب اسرائيل للهروب الى الملاجىء، تحت وابلأ من الرشقات الصاروخية. وباتت الحركة على اقتناع بأن “المناوشات المحسوبة ” السبيل الوحيد للاحتفاظ بصيغة “لا سلام ولا حرب”، وهي أيضا تمثل مطلبا إسرائيليا، فليست هناك حاجة أو مصلحة عاجلة للسلام، أو نزع سلاح حماس، لأن المقاومة المدخل الذي تستخدمه كل حكومة في إسرائيل لتقليص نفوذ الحركة وزيادة حدة الانقسام، ومبرر يتم استغلاله لتغيير توجهات الرأي العام في الداخل الإسرائيلي (٩) .
٦ – يتوقع ان تعزز نتائج الجولة الأخيرة من التصعيد إمكانية لإبقاء على الانقسام الفلسطيني، وهو مكسب إسرائيلي خالص، ما يجعل العودة إلى التفاهمات التي سبقت العملية الأمنية الأخيرة في خان يونس، هدفاً إسرائيلياً في سياق معادلته التي تقوم على هدوء مقابل هدوء، واستثمار الحالة الإنسانية المتأزّمة في قطاع غزة لمكاسب سياسية، تؤدي إلى الإبقاء على حالة الانقسام من جهة، وتأمين عملية الانفصال في اطار أحد أهم أهداف "صفقة القرن" التي تتبناها إدارة ترامب.
العوامل المحددة للاتجاهات المستقبلية :
في إطار محاولة استجلاء نتائج جولة المواجهة الأخيرة بين غزة وإسرائيل، يبدو أنه يجب الولوج إلى استنتاجات متضاربة بشأن تأثيرها على مستقبل الواقع السياسي والأمني والاقتصادي في قطاع غزة، حيث أنها يمكن أن تسهم في تحسين فرص انجاز مسار تهدئة، يفضي إلى انهاء حالة الحصار المفروض على غزة، أو على الأقل يحسن من الظروف الاقتصادية في القطاع بشكل جذري. وفي الوقت ذاته، فإن بعض تداعيات هذه المواجهة يمكن أن تمهد الطريق لاندلاع مواجهة شاملة بين الجانبين. يمكن الحديث عن العوامل التالية المحددة لاتجاهات الاوضاع في المرحلة المقبلة :
١ – نتنياهو يفضل تكتيك "الانهاك المتدرج" لحماس، المصحوب بـ"تكتيك الاستدراج الناعم" للحركة إلى مربعات "التنسيق الأمني" ومعادلة "الهدوء مقابل الغذاء والكهرباء"، على أن يُبقي لجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، يداً طليقة في تنفيذ ما تعتقده عمليات استباقية ووقائية ضد أهداف فلسطينية، في الزمان والمكان اللذين يراهما مناسبين (١٠). ولذلك اختار نتنياهو الهدوء على الحرب في غزة وجاء قراره مدعوما بتأييد رؤساء الاجهزة الامنية الذين يعتقدون بأنه لا يوجد مبرر لشن حرب الآن في غزة. واعتبروا ان التصعيد الأخير لم يشهد أي تغيير جوهري في الوضع على الارض، وكان أمرا تكتيكيا فقط، يعيد الطرفين الى نفس النقطة التي توقفت عندها محادثات التهدأة، وبالتالي لا يوجد اضطرار استراتيجي لخيار الحرب. ووفق تقديرات اسرائيلية فان الجولة الحالية اندلعت بسبب خلل اسرائيلي غير مخطط له في القطاع وبدون قدرة على مفاجأة حماس، وفي وضع كهذا سيكون من الصعب على اسرائيل استعراض قوتها. اضافة الى ان اي عملية برية في غزة يمكن أن تتعقد وتكلف ثمنا باهظا.
٢ – اعتبارات إقليمية لها دور كبير في حسم اتجاهات المرحلة المقبلة، من أهمها تطور العلاقات الاسرائيلية مع دول الخليج لمواجهة التهديد الايراني الذي يأتي ه على رأس التهديدات الاستراتيجية. ولذلك فان التخوف من تدهور الاوضاع في غزة ، وتحريض الرأي العام العربي ضد اسرائيل ، كان من الممكن ان يعرقل ترتيبات تطورات العلاقات العربية الاسرائيلية ، وهو الذي يحظى بدعم كبير من الولايات المتحدة، لتشكيل ما يسمى “الناتو العربي” ، ويبدو ان هذا الأمر كان عاملا حاسما في القرار الاسرائيلي، باعتبار ان المكاسب الاستراتيجية اهم بكثير من التورط في مغامرة اجتياح قطاع غزة التي سيكون لها الكثير من التداعيات السلبية على دولة اسرائيل سواء على المدى القصير أو المدى الطويل.
٣ – الاهداف الاستراتيجية لأطراف الأزمة، فاسرائيل تسعى لاستمرار الانقسام الفلسطيني وتعتبره خيارا استراتيجيا، وحركة حماس تعتب انها باتت قريبة من تحقيق حلمها بإقامة امارتها على ارض قطاع غزة بعيدا عن السلطة الفلسطينية، وهوالامر الذي يحظى بدعم الجماعة الام ، جماعة الاخوان المسلمين.
السيناريو الأول : هدوء يتبعه اتفاق تهدئة :
هذا السيناريو يتوقع ألا تتطور الأوضاع في غزة بعيداً عن النقطة الحالية، فجولة التصعيد الأخيرة جاءت في إطار مرحلة انتقالية من المرحلة الأولى لاتفاق التهدئة الجاري بلورته، والمتمثلة في الهدوء النسبي على جبهات مسيرات العودة، والمرحلة الثانية ، التي من المرتقب البدء في صياغتها والانتقال من مرحلة الهدوء إلى مرحلة التهدئة، بصيغتها الشاملة. الهدنة الحالية ، سيلحقها المزيد من الانفراج، والتوصل لصفقة تبادل أسرى، وتقديم تسهيلات إضافية ستزيد حوافز حركة “حماس”، لتطبيع وتهدئة الوضع الداخلي وهو ما سيدفع السلطة الفلسطينية لتقليص موازنة قطاع غزة، ما يقلل من أهمية المساعدة القطرية والتسهيلات المصرية الإسرائيلية. ما قد يؤدي الى مواصلة الدول والقوى الإقليمية سياسة التعامل مع القطاع كإطار منفصل، وهنا سيقوم الإسرائيليون باقتطاع أموال من عائدات الضرائب المحولة للفلسطينيين (المعروفة باسم المقاصّة) وتحويلها للقطاع (١١) .
وهذا السيناريو سيؤدي، على الأقل في المدى المنظور، الى بقاء الوضع الراهن كما هو ويجعل حماس أقل مرونةً في قبول مطالب السلطة الفلسطينية، وبالتالي تراجع فرص المصالحة الفلسطينية الداخلية، ويعزز الانقسام الفلسطيني، بما يخدم المصالح الاسرائيلية. علاوة على انه سيجر فصائل المقاومة إلى المخطط الإسرائيلي الذي يريد استنزاف مقدراتهم من جانب ودفعهم لمربع الدفاع عن النفس وعن السلطة القائمة في القطاع حتى لا تفكر بمد نشاطها إلى بقية فلسطين المحتلة ، ولإجبارها على تليين مواقفها تجاه ما هو معروض عليها من صفقة سياسية.
ويعزز هذا السيناريو، “الانضباط” الذي ميز الاداء العملياتي لكلا الطرفين اثناء موجة التصعيد الأخيرة، والذي اكد على رغبة كافة الأطراف عدم الانجرار الى المواجهة الشاملة لإسرائيلي، فمحدودية الرد الاسرائيلي والتأكيد على عدم إيقاع خسائر بشرية كبيرة في الجانب الفلسطيني. وفي المقابل فان المقاومة الفلسطينية التزمت بنفس القواعد تقريبا، وهذا ما اكدته حادثة الباص المستهدف بصاروخ الكورنيت، وتركيز القصف على مناطق غلاف غزة ومدينة عسقلان.
وفي المقابل ان هذا السيناريو يتعارض مع مصالح مصر التي تصر دائما ان يكون اتفاق التهدأة مسبوقا بالمصالحة الفلسطينية وعودة السلطة الى قطاع غزة ، بما يتعارض مع الاهداف الاستراتيجية الاسرائيلية ، التي ترى في الانقسام الفلسطيني مصلحة استراتيجية.
ويتعارض هذا السيناريو أيضا مع الإجراءات التي تمارسها اسرائيل في الضفة الغربية والقدس والتي ستؤدي الى انفجارالاوضاع مما سيضع حركة حماس في غزة أمام مأزق التخلي عن الثوابت الفلسطينية.
ولعل موقف السلطة الفلسطينية من هذه التطورات وتهديداتها المتواصلة بالرد على خطوات الانفصال المدعومة اسرائيليا، وهو احتمال تعتبره اسرائيل يشكل خطرا استراتيجيا في حال وقوعه.
السيناريو الثاني : الهدوء الحالي سينهار سريعا:
تقديرات الجيش الاسرائيلي تعتبر ان استمرار المظاهرات على السياج لديها القدرة على تجديد التصعيد بين الجانبين ، وسرعان ما ستندلع جولة عسكرية جديدة ، وان كان خطر المواجهة العسكرية الواسعة في قطاع غزة قد تم تأجيله في هذه المرحلة ، الا ان عودته قريبا تبدو حتمية، وفق الاعتبارات التالية :
١ – إن أكثر العوامل التي قد تسهم في تجنب إسرائيل العودة لمسار التهدئة وتدفعها للاستعداد لشن حرب شاملة على القطاع يتمثل في حقيقة أن الجولة الأخيرة، رغم محدوديتها، قد تركت أثارا عميقة على الرأي العام الإسرائيلي، الذي رأى في نتائجها خنوعا لحركة حماس. ومما يزيد من خطورة دلالات ردة الفعل الجماهيرية حقيقة أنها تركزت في المناطق التي تحتضن قواعد اليمين والليكود على وجه الخصوص، في سديروت، نتيفوت، أوفاكيم وغيرها.
٢ – كشفت موجة التصعيد الأخيرة عن ثغرات في قدرة الردع الاسرائيلية في ضوء الاتهامات للحكومة الإسرائيلية بعدم القدرة على توفير الامن لسكان جنوب اسرائيل، الذين فقدوا الثقة تماما بالمنظومة الأمنية والسياسية في إسرائيل. ووجهت المعارضة لحكومة نتنياهو اتهامات بأن توجهاته لعدم التصعيد، والاستمرار في مسار التهدئة، بحجة تعميق الفصل بين غزة والضفة، أعطى الفرصة لحماس لفرض معادلات عسكرية وسياسية جديدة، وجعلت حماس تُملي على إسرائيل، طبيعة ووتيرة الأحداث. وهو ما وضع الحكومة الاسرائيلية الحالية أمام خيار ضرورة استعادة الردع المفقود في غزة.
٣ – استقالة ليبرمان من الحكومة الاسرائيلية بحجة عدم موافقته على سياسة الحكومة باتجاه قطاع غزة، وسعي لتعزيز موقفه في الانتخابات القادمة، مرتكزا على أصوات المعارضين لسياسة نتنياهو، والراغبين في المزيد من التشدد باتجاه غزة، وبقاء الحكومة باغلبية ضعيفة، والتقديرات التي تعزز احتمالات تقديم موعد الانتخابات ، في ظل رأي عام اسرائيلي متطرف ، كلها عوامل تؤكد ان نتنياهو من المؤكد سيقوم بخطوة عسكرية خطيرة في قطاع غزة ، يستعيد بها بريقه الانتخابي والردع الاسرائيلي المفقود.
ويتعارض هذا السيناريو مع الاعتبارات الأمنية التي تتحدث عن عدم وجود بديل يضبط الاوضاع في قطاع غزة في مرحلة ما بعد إنهاء حكم حماس وان مواجهة بهذا الشكل ستدخل اسرائيل في اضطرابات أمنية لسنوات ستخسر خلالها الكثير من ابناءها.
وهناك عائق اخر أمام هذا السيناريو تفرضه متطلبات مواجهة التحديات الكبيرة على الجبهات الأخرى، سيما الشمالية، والحاجة إلى تجنب أي مسار يمكن أن يؤثر سلبا على نجاح موجة العقوبات التي فرضها الإدارة الأمريكية على إيران بهدف إجبارها على الموافقة على إعادة التفاوض على مستقبل برنامجها النووي.
٤ – اضافة الى التطورات الأخيرة على صعيد العلاقات العربية الاسرائيلية والتي تبشر بانفتاح وغير مسبوق شكل دائما هدفا استراتيجيا للحكومات الاسرائيلية المتعاقبة ، وبالتالي فان حرب مدمرة تشنها اسرائيل على قطاع غزة ، ستكون بالتأكيد عائقا أمام هذا الامر.
السيناريو الثالث : عملية عسكرية استخباراتية (اغتيال):
في ظل العقبات التي تعترض كلا السيناريوهات السابقة ، فان هناك سيناريو ثالث يظل محتملا ومرجحا ، يقوم على فرضية تنفيذ اسرائيل عملية اغتيال لاحد قيادات الفصائل الفلسطينية في الخارج، وهنا يقع على راس القائمة ، كلا من صلاح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والذي تتهمه إسرائيل بالاشراف على توجيه العمليات ضدها في الضفة الغربية. وزياد النخالة الأمين العام الجديد لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني.
ويعزز هذا الاحتمال ارتباط كلا الرجلين بايران ، والتي تتركز حولها الصراعات الإقليمية حاليا ومحاولات تشكيل تكتلات وتحالفات عربية اسرائيلية لمواجهة نفوذها في المنطقة.
وقامت المخابرات الاسرائيلية بتنفيذ عمليات اغتيال مشابهة مرات عديدة وفي مراحل تاريخية مختلفة، وبدون ان تترك بصمات تشير الى مسؤوليتها عن العملية، وهو الامر المطلوب في المرحلة الحالية.
ادراج العاروري مؤخرا على قائمة الارهاب الأمريكية ، والإعلان عن مكافأة خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، قد يعتبر مؤشرا خطيرا، على ان الرجل اصبح بالفعل على قائمة الاغتيالات الاسرائيلية.
المعلومات آلتي افادت بحضور رئيس جهاز الموساد اجتماعات المجلس الوزاري المصغر “الكابينيت” ، والتي جرى خلالها اعلان الموافقة على وقف إطلاق النار، خطوة تؤكد انه تم تفويض جهاز الموساد بمهمة استعادة الردع الاسرائيلي المفقود.
هذه الخطوة بامكانها ان تجنب اسرائيل الحرج الناجم عن تجاوز الوساطة المصرية باعتبار ان العملية ، ان تمت ستكون خارج النطاق الجغرافي لاتفاق وقف إطلاق النار.
كما ان الرد المتوقع لحركة حماس يمكن ادراجه في إطار سياسة “رد الفعل” أي انها ستكون محدودة وبالإمكان السيطرة عليها من خلال تقديم الامتيازات التي تبحث عنها حركة حماس. خاصة التسهيلات الإنسانية والاقتصادية في قطاع غزة والتي من شأنها ان تجعل الحركة تتجاوز ازمتها القائمة في قطاع غزة.
وهذا السيناريو يعني استمرار بقاء الاوضاع الفلسطينية على حالها ، وعدم تقديم أية تنازلات سياسية لحركة حماس في غزة والاكتفاء بالتسهيلات الإنسانية التي تطالب بها حماس وسكان غزة والمجتمع الدولي، كما ان هذا الخيار بامكانه ان يشكل مدخلا لتطبيع العلاقات الاسرائيلية الخليجية ، بحجة المساعدة في تجاوز الازمة الانسانية.
أي ان هذا الخيار سيعيد الردع المفقود اسرائيليا، وسيفتح آفاق دول الخليج أمام اسرائيل ، وسيسمح للتخلص مما يسمونه الخط الإيراني في المقاومة الفلسطينية، وسيبقى الوضع الفلسطيني على حاله المنقسم، ولن يعطي حماس أية أثمان سياسية.
* د. يوسف يونس باحث في الشؤون الإقليمية – مركز الناطور للدراسات
[email protected]
المصادر
١ – رقم قياسي في عدد صواريخ من غزة خلال يوم واحد، القناة الثانية العبرية 14/11/2018
٢ – حرب إسرائيلية محدودة: فرصة فلسطينية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، هاني حبيب، سما الإخبارية ١٤-١١-٢٠١٨.
٣ – نتنياهو مستعد لأخذ مخاطرة غير قليلة : كي يحصل على هدوء في القطاع، عاموس هرئيل، هآرتس ١٤-١١-٢٠١٨م .
٤ – ثقة حماس يجب أن تُقلق الجيش، بقلم أمير بوخبوط، موقع، موقع واللا العبري الاخباري 14/11/2018
٥ – عاموس هرئيل ، مصدر سابق.
٦ – اختزال الانتصار الفلسطيني في استقالة وزير، بقلم محمد أبوالفضل – العرب ١٥-١١-٢٠١٨م.
٧ – تصعيد التسوية، بقلم: تسفي برئيل، هآرتس – مقال – 13/11/2018
٨ – مواجهة مقننة فى لحظات حرجة، بقلم د. عبير ثابت ،١٤-١١-٢٠١٨)
٩ – يتغلف بالكابينيت، بقلم بن كاسبيت ، معاريف – مقال ١٤-١١-٢٠١٨.
١٠- بين فصلين في المسار ذاته، بقلم عريب الرنتاوي ١٤-١١-٢٠١٨م.
١١- تصعيد عسكري لتمرير صفقة سياسية، بقلم د. ابراهيم ابراش ١٣-١١-٢٠١٨