من الواضح أننا امام حالة غير مسبوقة من " الإندلاق" والهرولة التطبيعية الرسمية العربية على دولة الإحتلال،بما يؤكد بأن النظام الرسمي العربي،يعاني من ازمة بنيوية عميقة،وبأنه وصل حد التعفن،ولم يعد قادرا ومالكاًً لإرادته وقراره السياسي للتقرير بشأن قضاياه الداخلية وسياساته الخارجية.
وحالة الهرولة التطبيعية العربية الرسمية العلنية نحو الإحتلال، لم تأت من الفراغ او مقطوعة الجذور،بل هي نتاج لعملية تراكمية متواصلة كانت تتم بالخفاء والسر لمدة طويلة،ولعل قول الرئيس الأمريكي المتصهين ترامب،بانه لولا السعودية لعانت " اسرائيل" من تهديد وجودي.وبما يكشف حجم التطبيع الكبير الذي كان يجري تحت الطاولة وفي الخفاء،بين العديد من دول النظام الرسمي العربي،وفي المقدمة منها العديد من المشيخات الخليجية العربية،ولعل رئيس وزراء الإحتلال نتنياهو تحدث عن هذه الظاهرة اكثر من مرة،حول اللقاءات والزيارات التي كانت تجمعه،هو والعديد من قادة الإحتلال مع قادة وصناع قرار عرب،وهو ضاق ذرعاً في تلك العلاقة التطبيعية السرية،ويريد لها ان تنتقل من العشق السري الى الزواج العلني وعلى رؤوس الأشهاد،وليتحقق لنتنياهو ما يريده،حيث جرى تدشين هذه العملية بشكل علني وفي مؤتمر رسمي عقد في الرياض في 20/ ايار من عام/2017،المؤتمر العربي – الإسلامي – الأمريكي،حيث جلب ولي العهد السعودي الدول العربية والإسلامية لتصطف خلف " إمامة" ترامب لها،مؤذنة ببداية مرحلة التطبيع العلني مع دولة الإحتلال الإسرائيلي،ومعلنة بان " اسرائيل" ليس العدو للأمة العربية،ولا هي التي تهدد أمنها وإستقرارها وتحتل أرضها،بل هي مكون "طبيعي" من جغرافيا المنطقة،حارفة بذلك الصراع عن قواعده وأسسه من صراع عربي- صهيوني جوهرة القضية الفلسطينية الى صراع مذهبي إسلامي- إسلامي (السنة والشيعة)،وبان ايران هي "العدو" الرئيسي للأمة العربية،وهي من تهدد عروشها وأمنها وإستقرارها،وتقيم لها أذرع "إرهابية" في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين،والمقصود هنا القوى والحركات المرتبطة بمحور المقاومة من الجيش الشعبي في العراق الى حزب الله في لبنان وحركة انصار الله " الحوثيين" في اليمن،وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
ثمن هذا الإصطفاف كبير جداً،مقابل الحماية للعروش الخليجية،التي يقول ترامب بانها لم تصمد امام الألة العسكرية لإيران بضعة أيام، جزية دفعت بأشكال متعددة مالية نقدية واستثمارات في الإقتصاد والشركات الأمريكية وأثمان لصفقات أسلحة امريكية للسعودية تجاوزت ال 460 مليار دولار،وتدشين لخط الطيران المباشر لطائرة الرئيس ترامب من مطار الرياض مباشرة الى مطار اللد،والسماح للطائرات المدنية الهندية القادمة من الهند بإتجاه " اسرائيل" بإستخدام المجال الجوي السعودي.
على ضوء ما يسمى بصفقة القرن الأمريكية،المستهدفة لتصفية القضية الفلسطينية،والتي يقع على السعودية فيها دور"تطويع" الحلقة الفلسطينية للموافقة عليها،وفي ظل الفشل السعودي في جلب الطرف الفلسطيني لبيت الطاعة الأمريكي- الإسرائيلي،بات بن سلمان يهدد بتجاوز الطرف الفلسطيني،والذهاب نحو تسوية إقليمية،الطرف الفلسطيني فيها ليس صاحب قرار،ولكي نجد بان حبل التطبيع الخليجي العربي مع دولة الإحتلال مد " الحبل على غاربه" ،وكشف عن نظام عربي رسمي هش،يستعجل التطبيع مع الإحتلال الصهيوني،غير منتظر لما يسمى بالمبادرة العربية للسلام،التي جرى طرحها من قبل ولي العهد السعودي أنذاك خالد بن عبد العزيز قبل أن يصبح ملكاً في قمة بيروت أذار/2002،والتي نصت على الإنسحاب الإسرائيلي الكامل والشامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967 مقابل التطبيع مع دولة الإحتلال.
النظام الرسمي العربي الذي يعيش مازقاً كبيراً،بات يعتقد بان التطبيع العلني والشرعي مع المحتل،قد يشكل مخرجاً له من ازماته،ويمنع تساقط عروشه،فحرب بن سلمان على اليمن فشلت ،ومصيره على كف عفريت بسبب قضية قتل مواطن بلاده الخاشقجي وتقطيعه وإذابته بالأحماض،وإحتمالات توجيه الإتهامات له بالمسؤولية المباشرة عن هذه القضية كمجرم حرب،ناهيك عن فشل العقوبات الأمريكية على ايران،وهذا يعني بأن الدور السعودي في السياسة الأمريكية كضامنة لأمن اسرائيل يتراجع،ولذلك لا بد من خطوات دراماتيكية للسعودية في هذا الجانب،تبقي على الدور السعودي لدى الأمريكان،حتى ان بن سلمان هو من نصح وطلب من نتنياهو شن الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة،لكي يبعد الأنظار عن والإهتمام بقضية الخاشقجي،ولذلك بن سلمان،كان عراب العملية التطبيعية العربية الخليجية مع اسرائيل التي افتتحها نتنياهو ووزير مواصلاته يسرائيل كاتس بزيارة لدولة عُمان،وفي نفس الوقت كانت وزيرة ثقافته والرياضة تزور أبو ظبي،وتجول في قصورها ومساجدها،وتقول لنا بان " شعب اسرائيل حي"،وكذلك جرت لقاءات تطبيعية رياضية في الإمارات وقطر،أنشد فيها "هتكفا" الأمل، ما يسمى بالنشيد الوطني الإسرائيلي،ورفع فيها كذلك العلم الإسرائيلي،ولتتواصل العملية التطبيعية بتسارع كبير ،حيث تشارك ابو ظبي في دفع تكاليف مد خط الغاز الإسرائيلي تحت البحر بطول 2000 كم الى أوروبا (100 ) مليون دولار،ونتنياهو يستعد لزيارة السودان من اجل تعزيز علاقات التعاون مع رئيسها الإخونجي الذي فرط بوحدة السودان،وسخر جيشها للمشاركة في العدوان على أطفال اليمن الى جانب السعودية،ونتنياهو يريد أن تفتح السودان مجالها الجوي لطائراته المدنية الذهابة الى البرازيل وأمريكا اللاتينية،وكذلك وزير اقتصاده وصناعته إيلي كوهين يستعد لزيارة البحرين لحضور مؤتمر دولي حول صناعة " الهاي تيك" ...والسعودية تشتري منظومة تصنت اسرائيلية ...و"سيل" جراف من التطبيع العربي العلني المستمر والمتواصل،ورئيس جمهورية تشاد الإسلامية زار اسرائيل لتعزيز التعاون والعلاقات معها.
هذا القطار التطبيعي العربي غير المتوقف يقابله حالة استعصاء شعبي وجماهيري عربية واسعة،لم تمكن من صرف هذا التطبيع لا شعبياً ولا معنوياً،بل تصر على التمسك بالحقوق العربية،وبان لا يسمح لإسرائيل ان تكون جزء من المكون الجغرافي الطبيعي للمنطقة لأن ذلك يعاند حقائق التاريخ،والجماهير العربية ترفض التطبيع بكافة أشكاله سياسي،دبلوماسي،اقتصادي،ثقافي،تجاري ،عسكري وغيره،ما دامت اسرائيل تحتل أرضنا العربية.
البعض يرى بان انتشار التطبيع العربي ،انتشار النار في الهشيم،مرده الى السياسات المائعة للسلطة الفلسطينية،التي لم تدن علناً التطبيع العربي،وسياساتها التطبيعية شكلت حافزاً لتلك الأنظمة العربية المنهارة،لكي تشرعن علاقاتها التطبيعية مع دولة الإحتلال بشكل علني.
القدس المحتلة – فلسطين
27/11/2018
بقلم/ راسم عبيدات