اسمحوا لي أن أقدم اعتذاري لقرائي الأعزاء عن مقالي السابق "جمال خاشقجي وحكاية عصفور حر"، فإن الروايات المتداولة حول مصير خاشقجي لم تَرْقَ من وجهة نظري لتكون حقيقية، وأفظع تصوراتي لم ترسم حاكما عربيا يجلس مكان فرعون، إذ قتل تلك الخادمة المؤمنة برميها في الزيت الساخن، فليس هناك جريمة تستحق هذا العقاب إلا الكفر، ولم أتصور أن يوكل أحد بمثل هذه العقوبة سوى مالك وملائكة العذاب، ولقد تاه قلمي بخاشقجي كعصفور ليبرالي أراد أن يعبر عن رأيه ولو تجرع مرارة الغربة وانقلبت حياته، دافع عن بلاده بكل ما أوتي من قوة رغم واقعها المرير، ومع غرس بلاده في مستنقع الديكتاتورية غادر بلاده ولم تغادره، وما فكر أن يهاجمها أو يطالب بتغيير نظامها إنما اعترض على الديكتاتورية، فأنى لي أن أدرك أن ذلك أعظم جريمة في هذا العصر.
تكشفت الحقيقة شيئا فشيئا، وزادت بشاعتها مع كل خيط يتفلت من أجهزة المخابرات التركية لتربط المخابرات السعودية، وأعيت القضية من يداويها، انتظر المواطن العربي أن يقول القضاء السعودي (المستقل) كلمة الحق فيدين الجاني ويقرر العقوبة حسب الشرع، وإن ثبت تورط أحد أفراد الأسرة المالكة تنعقد هيئة البيعة لتضع القرار المناسب، وتعلقت عيونه إلى وسائل الإعلام ليسمع أنظمة بلاده تعبر عن موقفها أو رأيها أو حتى تفسيرها للحدث، ووقوفها مع أو ضد هذه الجريمة النكراء، والغريب أنه لم يستمع سوى تصريحات الأنظمة الغربية التي تدين الحدث وتصف بشاعة الجريمة، تشكك في الرواية السعودية وتبحث عن روايات أخرى أكثر قبولا، بل تعلن دورا لها في كشف الحقيقة واجتماعات دولية لتبادل المعلومات وتقصي الحقائق، ثم تقرر بعض العقوبات على النظام السعودي كمقاطعة الفعاليات الدولية ومنع تصدير الأسلحة، ومنع وصول أفراد إلى مطاراتها، وكأنهم أصحاب الحق وأولياء الدم.
فجأة، ظهرت إخفاقات النظام السعودي في معالجة القضايا الدولية؛ انقشعت الشمس عن جرائم اقترفها بحق الشعب اليمني، ومأساة يحياها اليمنيين يوميا تحت قصف طائرات عاصفة الحزم، وانعدام المأوى والموارد الأساسية للحياة والصراعات الطائفية التي لم تترك أبيضا ولا أسودا على الأرض دون أمل في مستقبل سياسي واضح، وانكشفت حكاية احتجاز رئيس الوزراء اللبناني في الرياض وإجباره على الاستقالة، وأدين حصار قطر (المسكينة) والتضيق عليها سياسيا واقتصاديا بسبب نهجها الإعلامي في قناة الجزيرة، بل طفت قضية احتجاز المعارضين السعوديين من داخل الأسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية وغيرها، وكأن تلك الأحداث عُرضَت في حصاد الأخبار المتأخر والعالم في سبات، ولم يدر بها إلا حينما كللها بهذه الجريمة البشعة، وأصبح الجميع يتفنن باقتراحاته حول تحقيق العدالة في هذه القضية وتبرؤه من القاتل وهدم مستقبله السياسي، دون أي أثر لتحرك عربي من خلال المحافل العربية كجامعة الدول العربية أو اتحاد دول الخليج العربي أو المؤتمر الإسلامي أو فردي لتطويق القضية ووقف التدخل الغربي السافر في قضية قتل معارض عربي في قنصلية عربية.
بشاعة جريمة خاشقجي أعطت المبرر لكثير من الدول للتطاول على النظام السعودي والمطالبة بشكل علني بتنحية القيادة السياسية وترشيح أسماء أخرى، والتهديد بعقوبات على النظام والشعب أو عدم التعاطي معه بوجود قيادته الحالية مستقبلا، أما من يطمع بابتزاز المال فإنه وجّه للمملكة إساءة تتمثل بقبوله لأي قائد يدفع المال حتى لو خضب يديه بدماء شعبه والشعوب المجاورة، والبعض حسد المبتز فأدلى بدلوه عسى أن يكون له نصيب من كعكة هذه الحفلة فغدى يتهم ويعرّض ويعلن عن عقوبات يعلم أنها غير مؤثرة، ولابد أن هناك من له خطط وأهداف داخل المملكة يمكن أن يستغل الجريمة والتحقيقات وما تبعها من ظروف حتى يحققها، أو يتسبب بفوضى تهيئ له الظروف لتنفيذ ما يرنو إليه.
ليس هناك مبرر لهذه الجريمة ولا بد للعالم أن يستنكرها ويطالب بمحاكمة الجناة، إلا أن المملكة لو استطاعت محاصرتها داخليا عبر تطبيق القانون وتنفيذ الحد الشرعي في الجاني ومساعديه مهما كانت صفتهم ورتبتهم، فإنها ستحرق حصان طروادة الذي يرى المجتمع الدولي هذه الجريمة فيه، وتقطع اليد الخارجية التي يمكن أن تمتد إلى أقدس بلادنا العربية فتعيث فيه خرابا كما حدث في العراق وأفغانستان، وتمنع الخسارة المادية التي تدفعها للطفيليين الذين فتحت هذه الجريمة شهيتهم بشكل مباشر أو غير مباشر، وتمنع تركيا من إذلالها أمام المحافل الدولية إذا تم طرحها للقضاء الدولي؛ فهل سنجد لهذا الأمر من رجل رشيد.
أسامة نجاتي سدر