أتخيل الحوار التالي بين ثلاثة أشخاص يمثلون وجهات النظر الأساسية المطروحة:
الأول: حركة حماس مسؤولة عن فشل جولة الحوار الأخيرة، مثلها مثل بقية المحاولات والمبادرات السابقة، لأنها أولًا من نفذت الانقلاب، وأي مصالحة لا بد أن تبدأ بإنهائه، وعودة السلطة الشرعية، وتنفيذ القوانين المرعية الإجراء. فهي لا تريد التخلي عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، ولا تريد تمكين الحكومة من الباب إلى المحراب، وإنجاز سلطة واحدة وقرار واحد وسلاح واحد، بل كل ما تريده "حماس" شرعنة إمارتها، والاعتراف العربي والدولي بها كلاعب أساسي وممثل آخر للفلسطينيين كمرحلة أولى على طريق انتزاع القرار والقيادة والتمثيل من حركة فتح والرئيس محمود عباس.
وعندما وافقت "حماس" على حكومة الوفاق، بعد "إعلان الشاطئ" في العام 2014، وعلى تمكينها، بعد اتفاق القاهرة العام 2017، لا يعني ذلك التنازل عن سيطرتها، بل هو ليس أكثر من محاولة لانتزاع مكاسب جديدة، مثل رواتب الموظفين والدخول في المنظمة. فالحكومة ستكون في هذه الحالة مجرد طربوش، وهي من ستبقى ممسكة بمقاليد الحكم ومصادره. ألم يقل إسماعيل هنية "غادرنا الحكومة ولم نغادر الحكم"، أي عندما تبدي "حماس" مرونة فتكون اضطرارية وتكتيكية لتخفيف مأزقها والضغوط الواقعة عليها، بدليل موافقتها على حل اللجنة الإدارية وتمكين الحكومة أولًا كما جاء في اتفاق 2017، ومن ثم تراجعت عنه وعادت للمطالبة بتطبيق اتفاق القاهرة الموقع في العام 2011. والآن، وافقت على تمكين الحكومة لمدة 45 يومًا، ويمكن أن تزيد المدة بشرط تشكيل حكومة وحدة فورًا، وما يعنيه ذلك أن الحكومة لن تستطيع أن تحكم فعلا إلًا في أضيق نطاق، ومع ربط تمكينها من الجباية بالتزامها بدفع رواتب الموظفين المدنيين والأمنيين الذين عينتهم سلطة "حماس".
وحتى نفسر موقف "حماس"، لا بد من رؤية أنها محكومة بعلاقتها مع جماعة الإخوان المسلمين، وخاضعة لما تريده تركيا وقطر من جهة، وإيران ومحورها من جهة أخرى. فالهامش الذي تملكه محصور في الصراع بين المحورين، فضلًا عن حاجتها إلى مصر بحكم ديكتاتورية الجغرافيا، ما أدى إلى تعاون حمساوي كامل مع مصر، لدرجة رفع صور الرئيس عبد الفتاح السيسي بدلًا من صور محمد مرسي.
الثاني: حركة فتح، وخصوصًا الرئيس عباس، مسؤولان عن فشل جميع محاولات ومبادرات المصالحة، فهما يريدان استمرار الهيمنة والتفرد للرئيس و"فتح"، والالتزامات باتفاق أوسلو رغم ما أدى إليه من كارثة، من دون شراكة حقيقية مع الآخرين، وخصوصًا "حماس" التي باتت لاعبًا منافسًا لا يمكن تجاوزه.
كما لم يعترفا بنتيجة الانتخابات التشريعية في العام 2006 التي فازت فيها "حماس" بغالبية مقاعد المجلس التشريعي. ورغم تكليف هنية بتشكيل الحكومة إلا أنهما بقيا متمسكَين بمقاليد الحكم ومصادره، خصوصًا الأمنية والمالية، معتمدين على الرفض الإسرائيلي والعربي والدولي لنتائج الانتخابات، لدرجة فرض المقاطعة على حكومة "حماس"، وعلى حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت بعد اتفاق مكة في العام 2007.
لا يؤمن الرئيس بالشراكة وكل ما يهمه كيفية عودة سلطته إلى قطاع غزة، وعندما انحنى للعاصمة بالموافقة على اتفاق القاهرة كان هذا مجرد تكتيك، فكانت تلك الفترة في العام 2011 تشهد مرحلة نهوض الإسلام السياسي، وتحديدًا الإخوان المسلمين، لدرجة أن رئيس مصر كان منهم.
أما "حماس"، فهي الأخرى أبدت مرونة وتنازلات كبيرة، بدليل تنازلها عن حقها في رئاسة الحكومة، ووافقت على حكومة الوفاق الوطني برئاسة رامي الحمد الله مع أنها كانت حكومة الرئيس أكثر ما هي حكومة وفاق. كما وافقت على تمكينها، بدليل الموافقة على التخلي عن سيطرتها على المعابر وعودة الوزراء وعدد كبير من الموظفين "المستنكفين"، شرط دفع رواتب موظفيها، أو على الأقل سلفة على الراتب إلى حين انتهاء عمل اللجنة الإدارية والقانونية، الذي يجب أن يتضمن دمج موظفي "حماس" المدنيين والأمنيين بالهيكل الوظيفي للسلطة.
الثالث: إن أي قراءة موضوعية لما جرى ستصل إلى أن الطرفين يتحملان المسؤولية عن وقوع الانقسام واستمراره، وسيره نحو التعمق أفقيًا وعموديًا، وتزايد احتمالات تحوله إلى انفصال، بما يعنيه نجاح المشروع الأميركي الإسرائيلي بفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، والدليل على ذلك أن الاتفاق على البرنامج الوطني، بما فيه أهداف النضال وأشكاله، والقواعد والأسس والقيم المنظمة للعلاقات الداخلية، لم يوضع كأولوية في الحوار ولا في الاتفاقات، ما جعل الصراع يبدو كأنه صراع على السلطة والمصالح والمكاسب، وعلى من يتخذ القرار ومن يمثل الفلسطينيين أكثر من أي شيء آخر.
طبعًا، تتفاوت المسؤولية من مرحلة إلى أخرى، فمثلًا عدم تمكين حكومة "حماس"في البداية بعد فوزها بالانتخابات تتحمل "فتح" والرئيس المسؤولية الأولى عنه، ومن ثم أيضًا في مرحلة حكومة الوحدة الوطنية إذ لم تمكن من الحكم ما زرع بذور "الانقلاب".
وتارة أخرى تبدو "فتح" أكثر حكمة من "حماس"، فمثلًا عندما وقّعت الورقة المصرية في أواخر العام 2009 قبل توقيعها من "حماس" بفترة قاربت العام ونصف، ولكنها فعلت ذلك لأنها قدّرت أن "حماس" لن توقعها. وفعلًا هذا ما حدث، إذ وقعتها "حماس" بعد أن أضافت ملحقًا للورقة المصرية، جوهره أن تشكيل الحكومة ولجنة الانتخابات واللجنة الأمنية وغيرها يتم بالتوافق وليس بقرار من الرئيس.
و"حماس" الآن أكثر حكمة لأنها تقدر عن حق بأن الطرف الآخر، لا سيما الرئيس، غير راغب في الشراكة، ويطرح شروطًا تعجيزية، وهي أصبحت تملك هامشًا واسعًا للحركة والمرونة بعد أن صححت علاقتها بمصر، عبر توفير الاحتياجات الأمنية المصرية، والابتعاد بمسافة واضحة عن الإخوان المسلمين، وبعد نجاحها بفرض نفسها كلاعب يتحكم بغزة، بدليل التوصل إلى معادلة "هدوء مقابل تخفيف الحصار"، وإدارة المفاوضات حولها سلمًا وحربًا باقتدار.
لتفسير ذلك نورد بأن طرفًا كل ما يهمه استعادة غزة إلى حضن الشرعية التي يهيمن عليها. أما الطرف الآخر فكل ما يهمه الاحتفاظ بسيطرته على غزة، ومراكمة المزيد من المكاسب، مثل الدخول في المنظمة، ودفع رواتب الموظفين، وهذا يعني أن لا مصالحة أو وحدة، على الأقل، على المدى القريب، لأن الشراكة هي كلمة السر القادرة على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وهي تعني أن الزمن الذي يستطيع فيه فصيل وحده أو قائد بمفرده أن يتحكم بالقرار الفلسطيني قد ولى، على الأقل، حتى إشعار آخر.
لكل طرف روايته وادعاءاته، فطرف يقول أنه سيطر على السلطة في غزة لأن نتائج الانتخابات لم تحترم، ومن أجل إلغاء اتفاق أوسلو والتزاماته وحماية المقاومة وسلاحها. أما الطرف الآخر فيقول إنه "أم الولد"، والحريص على المشروع الوطني، ووحدانية تمثيل المنظمة للفلسطينيين، واستقلال القرار الفلسطيني، وإحباط فصل الضفة عن القطاع.
بالفعل، "حماس" نفذت انقلابًا، ويجب التراجع عنه، ولكنه "انقلاب بين قوسين" فهي جزء من السلطة، وحصلت على الأغلبية في الانتخابات، ولم تمكن من الحكم، ولكن هذا لا يعطيها الحق بـالانقلاب، ولكن يخفف منه، ويجعله "انقلاب بين قوسين". وما يعزز هذه الرؤية "أن حماس تغدت بفتح قبل أن تتعشى بها"، أي أن هناك من المؤشرات والمعلومات ما يرجح أن هناك انقلابًا كان قيد الإعداد ضد "حماس" التي كانت ترأس الحكومة سينفذ في شهر تموز أو يلوح في العام 2007.
في هذا السياق، يمكن تفسير مصير الجولة الأخيرة، فما يدعيه كل طرف بأنه وافق على الورقة أو الأفكار المصرية وأن المصريين تفهموا موقفه غير صحيح، مع الاعتراف بأن "حماس" أكثر حكمة كما أسلفنا. فمصر كما يظهر من مؤشرات عدة تحمّل فعليًا الطرفين المسؤولية عن عدم النجاح، مع إصرارها على مواصلة جهودها خشية الفراغ والعواقب التي يمكن أن تترتب عنه.
فحركة "فتح" والرئيس يريدان إلغاء الفترة منذ وقوع "الانقلاب" وحتى الآن من التاريخ بكل الوقائع والحقائق والحقوق والقوانين، والمراكز القانونية التي ترتبت عليها. واتخذت الحكومة إجراءات عقابية وتهدد باتخاذ المزيد منها، وهذا غير مقبول بالمرة، وإذا حصل يكون جريمة مضاعفة، لأنه غير واقعي ولا يتناسب مع موازين القوى، ولا مع الحاجة إلى الوحدة كضرورة وليس مجرد خيار من الخيارات، ولا إلى متطلبات إفشال صفقة ترامب والمخططات والقوانين الإسرائيلية، وخصوصًا "قانون القومية" العنصري، وما يمكن أن يترتب عليه.
أما "حماس" فتريد منح الشرعية لكل ما قامت به منذ "انقلابها" وحتى الآن، بما يتضمن دمج الموظفين، المدنيين والأمنيين، والتغاضي عن توزيع الأراضي على أشخاص وأطراف من "حماس" أو محسوبة عليها ... إلخ.
المخرج موجود، ويقع في المسافة بين الموقفين، فلا يمكن منح الشرعية لكل ما قامت به سلطة "حماس" ولا نزع الشرعية عنه كليًا، وهذا يكون من خلال وضع محاولات إنهاء الانقسام في سياق العمل على إعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل الفلسطيني على أساس رؤية ومؤسسة وطنية جامعة وقيادة واحدة، وإعادة الاعتبار للقضية والمشروع الوطني والمنظمة التي قُزِّمت وغُيّبت منذ أوسلو، ولإعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها وموازنتها، بما في ذلك هيكلها الوظيفي والإداري والمدني والأمني، بما يلبي الاحتياجات والأولويات والمصالح الفلسطينية أولًا وأساسًا وليس المصالح الفصائلية، وكذلك علاقة السلطة بالمنظمة، بما ينسجم مع ضرورة تحويل المهمات السياسية من السلطة إلى المنظمة، ومع تجاوز الحكومات الإسرائيلية للالتزامات الإسرائيلية المترتبة على اتفاق أوسلو كليًا، ومع الاعتراف العالمي المتزايد بالدولة الفلسطينية الذي وصل إلى حد الاعتراف بها كعضو مراقب في الأمم المتحدة، وهذا يترتب عليه مزايا وإجراءات سياسية وقانونية عديدة.
المعضلة أن المسؤول عن الانقسام واستمراره والمستفيد منه لا يمكن أن يقوم بالخطوات المطلوبة الكفيلة بإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة سياسية حقيقية كاملة، وأن أدوات التغيير غير ناضجة ولا كافية، ما يعني أن الأولوية الآن لإبقاء القضية حية وتوفير عوامل صمود ووجود الشعب الفلسطيني، ولوقف التدهور والتخفيف من خسائر الانقسام وأضراره، وجعل ملف الوحدة مطروحًا باستمرار، لأن إزالته من طاولة الاهتمام يساعد على التعايش مع واقع الانقسام، ومع الوقائع الاستعمارية الاحتلالية الاستيطانية العنصرية، ويسهّل تطبيق "صفقة ترامب"، وكذلك لفتح واستشراف الآفاق الرحبة المستقبلية من خلال توضيح مزايا حل الرزمة الشاملة التي تقوم على البرنامج الوطني والشراكة أولًا وقبل أي شيء آخر، وما يتطلبه ذلك من وضع تصور واقعي وتفصيلي لكيفية السير نحوها خطوة خطوة.
إن مفتاح تحقيق ما تقدم هو الإيمان بضرورة وإمكانية التغيير وتوفير متطلباته، التي من ضمنها الشروع في حوار وطني شامل، وكسر الاستقطاب الثنائي الحاد، وفتح الطريق لقطب ثالث عابر للتجمعات والفصائل والأيديولوجيات. ففلسطين تمر بمرحلة تحرر وطني ديمقراطي، وتواجه أخطارًا وتحدياتٍ جسيمةً تهدد بتصفيتها، وهي بحاجة إلى إحياء الوطنية الجامعة.
بقلم/ هاني المصري