من الوعد المشئوم إلى قرار التقسيم ضاعت فلسطين! (3)

بقلم: مصطفى إنشاصي

اليوم ذكرى صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي نص على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، رقم (194) بتاريخ 11/12/1948، والذي وقفت أمريكا عقبة كأداء لليوم في طريق تحقيقه! لن نتحدث عن القرار ومضمونه ولكن سنتحدث عن الموقف الأمريكي الثابت من رفض عودة اللادئين غلى ديارهم منذ اللحظة الأولى، وللآن لا يريد ساستنا ومفكرينا وخبراء القانون وغيرهم فهم ذلك والكف عن تضييع من الوقت بتعليق الآمال على الصديقة أمريكا!

لم يعد خافيا على أحد الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في أربعينات القرن الماضي في دعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتأييد والضغط للإسراع في إقامة الكيان الصهيوني، وخاصة الضغوط التي مارستها على كثير من الدول التي كانت تعارض قرار التقسيم عام 1947م، من أجل إكراهها على التصويت لصالح القرار.

وما أن تم الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني في فلسطين ليلة 15 أيار/مايو 1948م، حتى سارع الرئيس الأمريكي، وبدون التشاور مع أركان إدارته، بإعلان اعترافه بهذا الكيان، فعل ولسون من قبل ووافق على وعد بلفور وتعهد بدعم وحماية الكيان الصهيوني عندما يتم إنشائه دون الرجوع لا لمستشاريه ولا للمؤسسات الحاكمة! ومنذ ذلك التاريخ ألقت الولايات المتحدة بكامل ثقلها وتأييدها وراء الكيان الصهيوني غر عابئة برد الفعل العربي، كما لم تقم وزنا لخطورة هذا الموقف المتحيز على مستقبل مصالحها في وطننا. كما حددت الولايات المتحدة ثلاثة محاور رئيسة للعمل عليها لدعم الكيان الصهيوني. تمثلت في: إكساب هذا الكيان صفة الشرعية الدولية. إغداق المساعدات عليه حتى يقف على قديمه. ودفع الدول الغربية لضمان حدود ووجود هذا الكيان تحت غطاء إقامة التوازن في الشرق الأوسط، كسبيل وحيد للاستقرار في نظرهم.

والذي يقارن كثير من السياسات الأمريكية منذ ذلك الوقت، وخاصة الأعوام الثلاثة التي تلت قيام العدو الصهيوني، بكل المواقف والممارسات السياسية الأمريكية عبر العقود التي تلتها، وخاصة أثناء انتفاضة الأقصى المبارك ومفاوضات ما يسمى السلام، فإنه سيجد أنها متطابقة إلى حد كبير، إن لم يكن تماماً. فأمريكا لم تتوان في تنفيذ هذه الإستراتيجية نحو العدو الصهيوني لحظة واحدة منذ ذلك التاريخ، ففي 29/11/1948م دعت أمريكا مجلس الأمن للاعتراف بالعدو الصهيوني، ولكنها فشلت في ذلك. ثم دعت مجلس الأمن مرة ثانية في 11/5/1949م، ونجحت في استصدار توصية من الجمعية العمومية. وفي خط متوازٍ كانت تمارس سياسة الضغط على العرب من أجل تأمين الظروف للكيان الصهيوني في ظل حرب 1948م لتثبيت وجوده في الأراضي التي اغتصبها، فقد دفعت العرب تحت الضغط للموافقة على الهدنة الأولى في حزيران/يونيو 1948م، ثم ضغطت مرة أخرى للموافقة على الهدنة الثانية في تموز/يوليو، وقد كانت الهدنتين لمصلحة العدو الصهيوني.

كما أن أمريكا في الفترة من أيار/مايو 1948م وحتى نهاية ذلك العام، حققت للعدو الصهيوني أشياء كثيرة، منها: قرار أمريكا بعدم إرسال ضباط مراقبة الهدنة، ومعارضة أمريكا مناقشة بند فلسطين في الجمعية العمومية، ووعد الإدارة الأمريكية العدو الصهيوني بالاعتراف بحدوده عند النقطة التي تصل إليها قواته. نفس السياسة مارستها الإدارات الأمريكية لليوم.

وفي كانون الثاني/يناير 1949م رفعت درجة اعترافها بالعدو الصهيوني من الاعتراف الواقعي إلى القانوني، ورفعت درجة التمثيل الدبلوماسي معها إلى درجة سفارة. كما بدأت تقدم له مئات الملايين من الدولارات لدعم وجوده واقتصاده تحت مسميات عدة. ومنذ عام 1950 بدأت توقيع الاتفاقيات الثنائية معه في المجالين العسكري والأمني. وهذا الدعم الواسع يدل على أن العدو الصهيوني بدأ يكتسب أهمية في الإستراتيجية الأمريكية، إذ صرح وزير الدفاع الأمريكي في عام 1949م قائلاً: (إن "إسرائيل" مهمة إستراتيجيا ويجب دعمها). وابتداء من عام 1951م قررت وزارة الدفاع الأمريكية بلسان وزيرها أن يكون للعدو الصهيوني دور متميز على أساس: (أن تقوية "إسرائيل" تساعد الدول الغربية على المحافظة على التوازن والاستقرار في "الشرق الأوسط" ... فبالإمكان الاعتماد على "إسرائيل" لمعاقبة واحدة أو أكثر من الدول المجاورة، التي تجاوزت تصرفاتها تجاه الغرب، حدود اللياقة المسموح بها).

أمريكا ترفض حق عودة اللاجئين

إن العصا التي تتكئ عليها الولايات المتحدة للتدخل في شئون وطننا الداخلية هي الصراع العربي- الصهيوني، وقد كان ولازال المعضلة الرئيسة فيه هي إصرار اللاجئين الفلسطينيين على احتفاظهم بحق العودة إلى أراضيهم وبيوتهم التي شردوا منها عام 1948م. إن هذا الحق مسقط في السياسة الأمريكية منذ بداية النكبة، ولا تؤمن الإدارات الأمريكية المتعاقبة به. ذلك لأن كل الرؤساء الأمريكيين أوفياً للأسس التي وضعها الرئيس الأسبق ولسون للسياسة الأمريكية المعادية للعرب، التي تقوم على أساس دعم قيام الكيان الصهيوني وتوفير الدعم المادي والسياسي والأمني له، والعمل على حمايته ...إلخ. وهذا هو الذي أزم حل قضية عودة اللاجئين منذ ذلك التاريخ، حيث اعتمدت حكومة ترومان سياسة تقوم على توطين اللاجئين، ودمجهم الاقتصادي في المحيط العربي. وهذا ما أعلن عنه ممثل أمريكا في لجنة التوفيق الدولية الثلاثية، التي شكلتها الجمعية العامة للأمم المتحدة من ممثلي فرنسا وتركيا وأمريكا، وأقرها بروتوكول لوزان في 12 أيار/مايو 1949م، فقد أعلن في اجتماع اللجنة في بيروت:

(إن "إسرائيل" لا تقبل عودة اللاجئين، والخير أن تنفذ قرارات الأمم المتحدة عملياً بدلاً من التمسك بها نظرياً، وهناك حقيقة واقعة وهي أن جميع اللاجئين لن يعودوا ... فمن الصعب أن يعود هؤلاء اللاجئون لأقاليم يسكنها قوم غرباء عنهم. فيجب التفكير في إعادة استيطانهم من جهة، وإعداد المشروعات اللازمة لعودتهم للحياة العادية). وذلك مبدأ أساسي من مبادئ العقيدة البروتستانتية والسياسة الأمريكية.

ومن أجل ذلك أيدت الحكومة الأمريكية إنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين كفرصة لتوطينهم في غير ديارهم، ودفعت غالبية ميزانيتها. وضغطت على الدول العربية البترولية خاصة كي تفتح أبوابها أمام الفلسطينيين للعمل فيها وبأجور مغرية جدا، وتسهيل كل السبل أمامهم لنسيان الوطن والقضية، كما حاولت أن تغري بعض الدول العربية لتوافق على توطين اللاجئين في بعض أراضيها.

كما حددت أمريكا منذ ذلك التاريخ، تاريخ معين تتوقف عنده أمريكا عن تقديم المساعدات للاجئين، وذلك لإكراههم على الاندماج في البلدان التي هُجروا إليها. وهذا ما حدث من أمريكا منذ سنوات، وأدى إلى توقف كثير من أوجه الدعم والخدمات التي كانت تقدمها الوكالة للاجئين نتيجة النقص الحاد في موارد تمويلها. وكذلك التضييق من الدول العربية على الفلسطينيين الذين سبق لها أن فتحت لهم أبوابها على مصراعيها للعمل و العيش فيها، ونسيان وطنهم وعدم التفكير في الخروج من هذه البلدان.

ومع وصول الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور إلى الحكم مع بدايات عام 1953م، بدأت تتضح معالم السياسة الأمريكية نحو العدو الصهيوني والأمة والوطن أكثر، وبقيت منها مبادئ وممارسات ثابتة في هذه السياسة حتى اليوم، رغم استحداث الإدارات الأمريكية اللاحقة لبعض المبادئ أو المسميات. وقد ركزت سياسته نحو الصراع العربي – الصهيوني بشكل خاص، قبل العدوان الثلاثي على مصر، وقبل إعلان مبدأ أيزنهاور – دالاس على نقطتين هما:

- الأولى : دفع العرب واليهود لحل مشكلاتهم والانخراط معاً في تحالف واسع ضد الشيوعية، وهو ما حاوله سلفه ترومان. وهذا ما تضغط لتحقيقه الولايات المتحدة اليوم، بدعوى محاربة الإرهاب.

- الثانية: العمل على توطين اللاجئين وتحسين شروط الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، كأسلوب لزرع الاستقرار ومنع الطبقات المسحوقة من الثورة والتمرد. وهذا ما استفتح به بوش خطابه الذي أعلن فيه عن مشروعه للشرق الأوسط الكبير.

ولقد مارس الرئيس الأمريكي أيزنهاور الذي خلف ترومان نفس السياسة تجاه اللاجئين بوضوح أكبر وشمول أوسع إلى درجة أن أعلن فيها وزير خارجيته جون فولتر دالاس:

"إن الآباء والأجداد يموتون، والأبناء والأحفاد ينسون" وها قد كذب الأبناء والأحفاد توقعات دالاس.

لذلك تعارض الولايات المتحدة حل الصراع العربي - الصهيوني طوال العقود الأربعة الماضية. وقد كان أشهر المواقف التي كشفت ذلك، موقف هنري كيسنجر عام 1970م عندما وافق الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) على مشروع روجرز، وقد كان في ذلك الوقت مستشار للرئيس نيكسون، اتصل بغولدا مائير رئيسة وزراء العدو الصهيوني وطلب منها الحضور إلى واشنطن، وأن تبدأ بالهجوم على أمريكا ومشروع روجرز حتى يتم إفشاله. لأن المشروع أكد على العودة لحدود عام 1967، وعلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. وهذين الأمرين لا يريده اليهود في داخل فلسطين المحتلة أو خارجها. وهذا نفسه الذي جعل كيسنجر والعدو الصهيوني يرفضان مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر جينف بعد حرب رمضان عام 1973.

لذلك كانت مدريد 1991م بالإكراه أو الرضا، على أساس قراري مجلس الأمن "242، 338"، اللذان يصادران حق الوجود للشعب الفلسطيني، ويفرضان عليه التفريط في أهم حقوقه. ثم كان عقد اتفاق المبادئ الفلسطيني - الإسرائيلي مع ياسر عرفات 1993م لإضعاف موقف المفاوض العربي على المسارات الأخرى، وإتباعه بالاتفاق الأردني - الإسرائيلي عام 1994م.

ومنذ تولى الرئيس جورج بوش اتخذت واشنطن منعطفاً ومنطقاً مغايراً لفحوى القرار (194) وروحه، فقد أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية "مارجريت تتوايلر" أن موضوع اللاجئين مسألة تقتضي التفاوض بشأنها بين الفلسطينيين و(إسرائيل)! كما أكد "دينس روس" مساعد وكيل الخارجية في عهد إدارة بوش، أن الولايات المتحدة "لا تنوي المساهمة في وضع القرار 194 موضع التنفيذ! كما أكد وزير الخارجية السابق "جيمس بيكر" عدم الخوض في أي حديث عن حق اللاجئين في العودة أثناء مداولات مجموعة عمل اللاجئين (المتعددة الأطراف) والتي كانت تجري في عاصمة كندا ( أوتاوا )، على اعتبار أن المجموعة تبحث الأمور "الفنية" لا القضايا السياسية!

ونحن هنا لسنا في حاجة إلى التذكير أن أمريكا هي رائدة حملة الإكراه للعرب والفلسطينيين لقبول هذا السلام المذل للأمة، وما يترتب على ذلك من مشاريع إقليمية لدمج الكيان الصهيوني في نسيج المنطقة وشعوبها كعضو أصيل فيها، بل وقائداً ورائداً وشريكاً في كل شيء.

بقلم/ مصطفى إنشاصي