الوفاء من أروع الصفات التي يتحلى فيها الإنسان. فهو الصدق والصراحة، الإخلاص والعطاء بعيدا عن السعي لتحقيق المصالح الذاتية الضيقة. فالوفاء لا يغيب كما تغيب الشمس، والأوفياء حاضرون رغم موتهم وغيابهم الجسدي. واليوم نستحضر ذكرى ذلك الرجل بعد مرور خمس سنوات على وداعه. رجل كان وفياً لوطنه وشعبه وقضاياهم وحقوقهم العادلة، فأعطاهم الكثير وأخلص بلا حدود. وهنا لا نملك سوى بضع كلمات كي نوفيه حقه ولنعبر له عن احترامنا وتقديرنا. والرجل مهما قلنا فلن نوفيه حقه. إنه الدكتور/إياد السراج: رجل الوفاء وأحد أبرز الحقوقيين والمدافعين عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في فلسطين. والذي رحل عنا في الثامن عشر من كانون أول/ديسمبر عام 2013.
لاشك أن الموت حق، وأن كل نفسٍ ذائقة الموت، إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام, ولكن هذا لا يعني أن لا نحزن على فقدان أحبتنا، وأن لا نبكي عليهم لحظة رحيلهم الأبدي. أو أن نستحضر سيرتهم الطيبة ومكانتهم القديرة في ذكرى رحيلهم، وأن نرثيهم بالبلاغة التي تليق بهم وأن نبحث عن الكلمات التي يمكن أن تنصفهم وتفيهم البعض من حقوقهم.
خمس سنوات مرت على رحيلك أيها المناضل من طراز خاص، ونحن مازلنا غير مصدقين أنك غادرتنا إلى مثواك الأبدي، نحسبك بيننا في كل حين، وما زال حضورك قويا بين أحبائك وزملائك، ولازلت حيا بيننا وبين من عرفك، نموذجا في سلوكنا وفي سلوك كل من استمع اليك وتعلم منك وعمل معك، ولازلت منتصباً وشامخا أمامنا كما عرفناك، بابتسامتك العريضة وأخلاقك الفاضلة وانسانيتك الرفيعة ورؤيتك السياسية الواقعية والثاقبة، ومواقفك الوطنية النبيلة ونشاطاتك الوحدوية. لذا يصعب على المرء منا انتقاء من اللغة العربية ما يليق بك من حروف، وما يناسب تاريخك الحافل بالعطاء من كلمات رثاء وعبارات المدح والإشادة.
لقد ترددت كثيرا قبل أن أمسك قلمي وأكتب. فالكتابة في هذه المناسبة تبدو لي صعبة ومعقدة. فليس من السهل على كاتب متواضع مثلي أن يخط من الكلمات ما تليق برجل بمكانته الرفيعة، وأن يوفق في صياغة عبارات الوفاء لمسيرته الرائدة. فالحبر جف بالأقلام، والحروف مبعثرة ويصعب لملمتها، وحتى ان نجحنا في لملمة بعضها بعد عناء ومشقة، فإنها لم ولن تعطينا كلمات تليق به، وكأن كلمات الوفاء وعبارات الاخلاص رحلت مع رحيله. ومع ذلك وبالرغم من كل الصعوبات التي واجهتنا وتواجهنا في الكتابة قررنا الاستعاضة بدموع العيون لنخط بعض الكلمات، التي نرى بأنها واجب علينا ووفاء منا لهذا الرجل الوفي والأخ والصديق العزيز الذي عاش عظيماً ومات عظيما، فبقىّ فينا عظيما.
قرأت وسمعت عنه الكثير قبل أن ألتقيه، وأعجبت بعطائه وتاريخه النضالي ومسيرة حياته قبل أن أعرفه أو أجالسه، وازددت اعجاباً به بعدما التقيته وجالسته مراراً، وافتخرت بعلاقتي معه وصداقتي به بعدما تعرفت عليه عن قرب.
خمس عشرة عاماً وما يزيد، من العمل المباشر معه، والاحتكاك المتواصل به، والالتقاء والجلوس معه عشرات الساعات عبر مئات المرات، كانت كفيلة للتعرف على شخصيته ومكوناتها، وهي كفيلة أيضاً لأن يحوز على جل احترامي وتقديري، بل على احترام وتقدير الجميع ليحجز له مكانة في عقولنا وقلوبنا، وله الفضل على كل من عرفه وتعامل معه أكانوا أفراد أم جماعات ومؤسسات.
التقيته منفرداً وتناقشنا وتحاورنا في مواضيع عدة، والتقيته جماعة واستمعت منه لأحاديث قيمة وثرية، والتقيته مراقبا في اجتماعاته العائلية ومناقشته للقضايا الداخلية في اطار أسرته، وفي كل الاجتماعات كنت أستفيد منه وأزداد معرفة وخبرة، من سلوكه وحديثه وتعامله.
فهو الرجل الحر والأخ الصادق، والصديق الوفي الذي لم تمل من محادثته أو مجالسته، وكلما جالسته استفدت وتعلمت منه، فالاحتكاك به فائدة وللجلوس معه فوائد، وكنت أبحث دوما كي أجلس معه لأستفيد من مخزون معارفه وخبراته وينبوع معلوماته القيمة وقاموسه الخاص ورؤيته المستقبلية وتحليلاته الصائبة.
فهو طبيب بارع، ومدرس مؤثر، وحقوقي مقنع وسياسي محنك وجريء، بل هو مدرسة تجمع كل لغات العالم، وجامعة تضم كافة التخصصات الوطنية والعلمية والأكاديمية والإنسانية. وهو من أبرز المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمتميزين في مجال الطب النفسي ومؤسس برنامج غزة للصحة النفسية، وهو من أفنى سنوات عمره في سبيل وطنه وقضايا شعبه وحقوق أبنائه.
د.أياد السراج: هو واحد من الشخصيات الوطنية التي تعاملت معها، وأخلصت لقضايا الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ودافعت بقوة عن حقوقهم الإنسانية الأساسية، ودعمت فعاليات ورعت أنشطة مميزة تؤكد على حقهم المشروع في الحرية، وكثيراً ما أتاح لي فرصة اللقاء بشخصيات دولية رفيعة ومهمة لأطلعهم على أوضاع الأسرى، وكان حريصا على اللقاء الدائم بأهالي الأسرى، فكان خير نصير لهم ولقضاياهم العادلة. وأذكر انه رفض لقاء الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة "بان كيمون" خلال زيارته لغزة عام 2011 لأن الأخير رفض إدارج أهالي الأسرى ضمن الوفد الذي كان سيقابله. وحينها قيل له ستخسر "بان كيمون" فرد د.اياد قائلا : اخسر "بان كيمون" ولن اخسر الأسرى وعائلاتهم. هذا هو الوفي لقضايا شعبه.
حقا كان ومعه طواقم مركز غزة للصحة النفسية شركاء معنا في حمل الرسالة وابراز معاناة الأسرى ودعم حقوقهم، وتوثيق تجاربهم ومعاناتهم، وكثيرة هي الفعاليات المميزة واللقاءات المهمة والأنشطة المتنوعة التي نظمناها سويا. كما وكثيرة هي الخدمات التي قدموها للأسرى المحررين ولعائلات الأسرى.
د.اياد: هو من الشخصيات الفلسطينية القلائل التي استطاعت أن تنسج علاقات مفتوحة وقوية مع كل الأطراف في العالم أكانت فلسطينية أم إقليمية أم الدولية، أو حتى الإسرائيلية، وحظي بمصداقية عالية وحضور دولي مميز ومؤثر ذو وزن كبير لدى كافة الأوساط وعلى مختلف المستويات.
وعلى مدار سني حياته حاز على العديد من الجوائز، وخزائن مكتبه ورفوف مكتبته الخاصة مكدسة بالجوائز الإقليمية والدولية التي حاز عليها، تقديراً لكفاءته ومساهمته بالنهوض بالصحة النفسية للمريض النفسي، وإنصافاً عالمياً لرجل عظيم كرَّس حياته من أجل كرامة الإنسان وحقوقه وترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في المجتمع الفلسطيني بشكل عام.
د. اياد: الرجل الوفي. لعب دورا مهما وأساسيا في تشكيل لجنة الوفاق والمصالحة لتوحيد الصف الوطني الفلسطيني وإنهاء الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، وشكّل على الدوام محورا أساسيا وجامعا فيما بين الأطراف الفلسطينية كافة على اختلاف توجهاتها السياسية والفكرية والأيدلوجية، وبذل جهدا كبيرا وعقد اجتماعات عديدة، وحاول تقريب وجهات النظر وتقليص الفجوة فيما بين الأطراف المتخاصمة. وكما كان في حياته شخصية الاجماع الوطني. فإن الكل الفلسطيني وعلى اختلاف انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم الفكرية وقناعاتهم الأيدلوجية، التقوا واجتمعوا بعد مماته خلال تشييع جثمانه تكريماً لشخصه ووفاء لعطائه واخلاصه اللامحدود، وتقديرا لتاريخه العريق ومسيرته المظفرة.
د.إياد .. فقدناك أخاً كبيراً، وصديقاً عزيزاً، ومدافعا صلبا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحريصاً جداً على ترسيخ الوحدة الوطنية، ومناصراً قوياً لقضايا الأسرى وحقهم بالحرية.
بقلم/ عبد الناصر فروانة