ابدا لم نعد نحن على حقيقتنا وأبدا لم نعد كما ندعي اننا كذلك فلسنا اصحاب التاريخ المروي مشافهة او مكتوبا في القليل من الاحيان وان كتب فهو تاريخ روائي يعتمد الشعر والنرجسية ولا يرى ابدا الصورة الحقيقية على قاعدة القراءة المتعقلة والنقدية لا على قاعدة قراءة الرضا او صياغة المقروء كما نهوى وإعادة كتابته بما يرضي نفسا مريضة لا تسعى حتى لرؤية مرضها بذاتها اضعف الايمان وطبعا ولا القبول بالاعتراف به علنا وفي الحالتين نحن نعيش حالة رضا مرضية عند الضرورة وخصوصا امام الاخرين وفي نفس الوقت نلعن انفسنا صباح مساء في ذواتنا وما ان نرى صورة الغريب حتى نعاود الانتفاخ من جديد دون ان نقر ان الاختباء بات مستحيلا.
عالم السلعة الامريكية او الغربية الملموسة والمحسوسة التي كنا نتقن مقاطعتها او الدعوة لمقاطعتها باتت امرا غير ممكن على الاطلاق بعد ان تحولت السلعة المنتجة امريكيا او غربيا على ابعد تقدير الى سلعة غير مرئية وغير محسوسة وبات من المستحيل علينا محاربتها او مقاطعتها وبتنا مستهلكين لها بأسوأ اشكال الاستهلاك بدراية او بدون دراية منا على الاطلاق فسوق السلعة الملبية لاحتياجاتنا الملموسة توارى كثيرا بل اصبح ممكنا ان ينتقل لنا بأشكال مختلفة بعد ان امتلكت امريكا وعلى هامشها اوروبا اقتصادا جديدا هو اقتصاد الاتصال والمعرفة فرفض التلفاز والبنطال والبزة الاوروبية كان ممكنا ما دمنا قد نستعيض عنه باللباس العربي التقليدي ورفض السيارة ممكن بالاستعاضة عنه بالحمير لكننا لا يمكننا الاستعاضة عن الكهرباء بلمبة هارون الرشيد ولا الهاتف بلعبة الخيطان ولا الموبايل بالصوت العالي ولا الانترنت بخراريف ( نص نصيص والشاطر حسن ).
في تخاطب الجيل العربي الشاب على الانترنت نلاحظ اليوم استخدام مطبق للحروف اللاتينية بل وإبداع حتى في خلق بدائل للحروف الغير متاحة لاتينيا كحرف العين الذي استبدل بالرقم اللاتيني 3 وكذا الحروف الاخرى وبات شبابنا يستسهلون استخدام الحروف اللاتينية اكثر من العربية وكذا فان اسماء الشركات والمحلات التجارية باتت تستخدم اسماء وشعارات انجليزية تتقدم على الاسماء والشعارات العربية بل تكاد الاسماء العربية تلفظ انفاسها او يتم التعامل معها باستهزاء شديد من قبل الاجيال الشابة ويقضي شبابنا معظم وقتهم باستخدام وسائل وتقنيات غربية بما في ذلك العاب وأفلام وأغاني تنقش الثقافة الغربية في رؤوسهم رغما عنهم وتتجذر تدريجيا في تفكيرهم حد الانسلاخ عن واقعهم ومن يراقب الجيل الشاب في اماكن تواجدهم يجد جيلا غائبا احيانا بعيدا عن التفاعل مع الواقع مكتفيا بالعيش فيما يقدمه له جهاز هاتفه النقال.
يبدو ان حالة التأمل السلبية التي نعيشها مع الشمس وهي تصحو من الغرب لتغفو في الشرق قد جعلتنا ننشغل عن الحقيقة العملية بالمرئي باعتباره حقيقة أهم اي اننا بتنا نعتقد ان الثبات من نصيبنا ولم نصدق اننا وأرضنا من يتحرك وليس الشمس وهذا يعني ان التجديد ينبغي له ان يطالنا نحن لا ان يطال الشمس البعيدة ولا يمكننا ان نكون كما نحن في غداة معاودة الحضور المتتالي الى المكان الذي كنا فيه في اليوم الماضي او الشهر او السنة من حيث موقعنا من الشمس او موقعها منا وهذا يعني ان الزمن الذي مر علينا مر في حالة حركه ادركتها الامم الاكثر حياة فسعت عبر جهد عملي بدء بالتجريب والخطأ لينتهي بمختبرات تقلل نسبة الخطأ حد الغائه نحو الوصول للهدف المفترض والذي لم يعد حاجة مباشرة بل حاجة مبتكرة وذلك يعني تأصيل الحركة في ذاتها لذاتها بما يخدم مواصلة انتقالها الى الامام لا انتظار معاودة قدوم الشمس من جديد, او القبول بتغير البعيد كتمني لقدرته على تغييرنا, لذا ظلت الامم الزراعية المتخلفة مثلا تعمل بنظام الفصول بينما سعت الامم الاكثر تطورا الى صناعة فصولها من جديد ولم تعد الزراعة موسمية على سبيل المثال فقد صار بالإمكان انتاج المحصول الشتوي صيفا والعكس صحيح ولا زلنا نستعمل المحراث القديم لحراثة الارض والعصي لقطاف الزيتون ولا نقتنع بمعاصر الزيت الحديثة ونلجأ للحجارة لنأكل زيتا عكرا على انه الافضل والأطيب وننشغل بالزارات والحجابات والغيبيات وحكايات جحا وتاريخ عنترة بينما ينشغل العالم بتطوير الثورة الرقمية والسيطرة على اقتصاد المعرفة على انه اقتصاد الغد واقتصاد السيطرة.
ينشغل مفكرينا وعلمائنا بالبحث عن النصوص التوراتية وموطن بديل لإسرائيل بدل مقاومتها عملا ونسعى ذهنيا لإيجاد بدائل للصهيونية تقنعهم او تقنعنا اولا ان فلسطين ليست ارضهم بينما قد تكون اليمن وقد تكون الجزيرة العربية او مصر وكان الامر اسهل علينا لو اعطينا اليمن او مصر بديلا لفلسطين, هذا الانشغال السخيف بالتاريخ والحق التاريخي والجدال السفسطائي الذي لا يخدم ابدا سوى الرواية الصهيونية دليل عجز فاضح وغياب عن الواقع وانعدام القدرة على التأثير به عملا, في حين لا ينشغل احد على الاطلاق في الولايات المتحدة من اين جاء ولا الى اين سينتهي به المطاف وينشغلون هم ومعهم اسرائيل التيه باحتلالنا والسيطرة علينا وصناعة الموت في صفوفنا ونهب خيراتنا وعقولنا دون ادنى احساس من طرفنا سوى احساس البحث عن سبيل للفوز بهويتهم او جنسيتهم وقد لا نجانب الحقيقة ان قلنا اننا نفضل حمل جوازات سفرهم على جوازات سفرنا ونغادر بلادنا طواعية لبلادهم لنغني لنا ونضع ايدينا عمليا معهم ضدنا فالفلسطينيين ومعهم العرب من كل حدب وصوب يعملون لدفع عجلة الاقتصاد الامريكي والغربي الى الامام طوال وقتهم وفي اوقات الفراغ يغنون لفلسطين او يلبسون كوفيتها وفي احسن الاحوال يقتطعون من دخلهم بالدولار بعض دولارات يرسلونها لفلسطين كيفما اتفق لتشعرهم بتكفيرهم عن جريمة الاصطفاف بصفوف صناع الجريمة ضد بلادهم وشعبهم بهذا الشكل او ذاك وما ينطبق على فلسطين ينطبق على غيرها من العرب والدول المتخلفة في افريقيا وآسيا.
الانسان البدائي او ما يصطلح على تسميته بالإنسان الاول كان حبيس ذاته وضعيف وغير قادر على ادراك محيطه لشعوره بالعزلة عن هذا الواقع الاكبر بكثير من قدراته انذاك ولذا لجا الى الخيال والحلم والوهم والاعتقاد بان الواقع يستحيل تفسيره او معرفته والسبب الحقيقي كان في القصور الذهني لذلك الانسان الذي هرب من ضعفه في ادراك الواقع الملموس وتفسير ظواهره الى الرضوخ لها وأحيانا عبادتها كما هو الحال في عبدة النار والشمس والقمر وما الى ذلك, وبالتالي فان حال الوهم والخيال والركون اليهما باعتبارهما الاكثر قدرة على تفسير الواقع الملموس خشية الاقتراب منه يظل ملازما لحالة التخلف التي يعيشها اصحاب هذا النهج من التفكير الخالي من العلم والعقل او التعقل كمنتج للعقل البشري.
ان ما يعيق الامم من الانتقال الى الحضارة والرقي والفعل العملي على الارض وتحويل المكدس من المعرفة الى ملموس والقدرة على الاتيان بالطبيعة والواقع الى افران الفعل بهدف تطويع الواقع لخدمة الانسان بدل ان ينحصر في مواصلة البقاء في القاع بعيدا عن الانتقال الى القمة وعادة ما يتمثل هذا القاع بسيطرة الماضوية واعتماد الاسطورة والخرافة كأساس لتقبلها او لفرضها كحقيقة قائمة لا تتغير وهي اي الاسطورة والخرافة تبنى على اوهام تسهل السيطرة على صاحبها وإخضاعه لإرادة الجهة المسيطرة او الحاكمة والتي كلما ازداد استبدادها جاءت مصلحتها متطابقة مع الابقاء على سطوة الخرافة على عامة الناس لتصبح اداة السلطان الاستبدادي في بسط سلطانه المطلق وتثبيته الى حد تحويله الى جزء من الاسطورة ومنحه صفة القداسة وهو ما يجعل من صورة الحاكم لدى الامم المتخلفة صورة المقدس بأشكال وأنماط مختلفة تصل حد الطاعة العمياء وإلغاء العقل النقدي او حد منع عمل العقل وصولا الى التعقل في قراءة الواقع بأشكاله وتجلياته المختلفة وفي سبيل ذلك تظل الصورة القديمة هي المطلوبة كمكون دائم للرأي والارتهان برواية الاسطورة قبل رواية التاريخ والتوقف عن استخدام العقل امام النص القديم بحيث يصبح للكتب الصفراء قداستها بقدر اصفرارها ويصبح لأصحابها انفسهم وآرائهم قداسة كما لنصهم وهو ما يفسر ان البعض اليوم يلجأ لكتب ابن تيمية وغيره في تفسير الحال المعاش في القرن الواحد والعشرين وإلباسه قسرا لباس القدماء نصا ورؤيا بدون ادنى تمحيص او مقاربة او قراءة متعقلة على ضوء الواقع المعاش وتطوراته في المحيط الذي نعيش فتظهر قوى مثل داعش مثلا تلغي كليا ما يدور من حولها وتنخرط في تفسيرات غيبية قديمة تعتمد على اراء اشخاص لا يملكون من العلم غير قدرتهم على السفسطة والتحايل على النصوص لاستخراج نصوص بديلة تحل محل الاصل وتحمل قداسته ان لم يكن اكثر وهو ما يفسر ان نصوص وأفعال البعض احتل مكانة القرآن كبديل عملي له يضع اسسا لواقع الحياة وأسلوب العيش بل يدمر الواقع بهدف الغائه لصالح الماضي الميت اصلا لان من يسعون اليه انفسهم ظلوا حبيسي قبور هذا الماضي ولم يستطيعوا الانتقال الى الامام كأفراد في الاصل قبل الجماعة فوجدوا ضالتهم في التحالف الدموي الساعي لمنع فتح الابواب للريح لتعصف بعفن قبورهم.
الاستبدادي يسعى الى تعميم الاسطورة وإشهارها ونشرها وإشغال عامة الناس بها وتقديمها بصورة اجمل تعبر عن رغبات وأمنيات البعض الذين يجدون بها ملاذا من كل اخفاقاتهم المختلفة بما يؤصل لديهم الاعتقاد بان الحلم بالأسطورة والانشغال بترديدها قد يقودهم الى تحويلها الى واقع معاش بما في ذلك حد الاعتقاد بان العودة للماضي عمليا قد يصبح ممكنا وحقيقيا لمجرد الاعتقاد به وهذا يجعل الحاكم الاستبدادي وسلوكه بمناى عن خطر النقد النظري اولا والذي ان وجد قد يتحول تدريجيا من حالة النقد الى حالة النقض وصولا الى فعل التغيير الذي لا يرغب به الحاكم ولا طبقته او بطانته او نخبته المسيطرة ولذا يلجأ الحاكم وأبواقه ومروجي فكره وقداسته الى انكار قدرة العقل على الوصول الى الحقيقة ويجعلون من النصوص التي تخدم مصالحهم وتفسيرهم لها الملاذ الوحيد الذي لا يناقش باعتبار ان صانعيه هم مالكي العقل المطلق ومدركي الحقيقة المطلقة وان على الجموع الطاعة والتنفيذ ما دامت عقلهم قاصرة فعلا وقد يتجلى ذلك في انماط وأسس البحث العلمي المتأصلة عند العرب باعتبار ان اي بحث لا يعتمد على نصوص سابقة او لا يستند الى مسلمات السابقين رغم هشاشتها والتي تتحول عن منهجها العلمي اصعب في نهر الغيبيات وتجذر منهج الخرافة الاسطورة الغير قابلة للنقد وبالتالي يستحيل نقضها بجلب الواقع المدرك بديلا لها لان ذلك سيعني ليس نقض الاسطورة فقط بل وتجلياتها بما في ذلك شخوص المستفيدين من ترويجها وتجذيرها لجعلها عصا السلطة والسلطان على عقول ورقاب شعوبهم بينما يسعى العقل النقدي الى كشف الاخفاقات فيما مضى ومحاولة الارتهان عليها لنقضها او اثباتها لا التسليم بها لكونها عاشت قرونا طويلة فيما مضى كإثبات وحيد على صحتها وديمومتها.
المؤمن بالأسطورة عادة ما يكون ضعيف القدرة على الاقناع لكونه يعتمد التسليم بما يروى ويقال ما دام يخدم اسطورته وهو بالتالي يجد نفسه متحجرا عند معتقده الاسطوري او الخرافي حد التعصب المطلق ورفض الاخر شكلا ومضمونا ورأي بما يعني ان الحفاظ على الذات يقضي بالتخلص من الاخر وليس بالاستفادة منه او قراءة ما جاء به بمنحى تطوير الذات وقبول الايجابي والأخذ به وهو ما يجعل المهمة المسيطرة تنحصر في السعي لاغتيال الآخر وإلغاء رؤاه او قراءاته للواقع أو منتجه العلمي والحضاري دون تمحيص والتنكر لها ومنع انتشارها حتى لا تؤثر على الرواية المقدسة لقدمها لا لصلاحها وبالتالي يسعى المتحجر عند اسطورته اللاواقعية الى الهروب بذاته عن واقعه والانسلاخ عنه اما باللجوء الى البعيد المتخيل او حتى بقبول الواقع الآخر المرفوض منه حد السعي للانتماء اليه كأن يسعى الشباب العربي الرافض لواقعه والمعادي للمنتمين لهذا الواقع داخلا وخارجا الى السعي للانتماء للأقوى او الاحتماء به او قبول نسبه وهذا يفسر السعي المحموم للهجرة الى الغرب والانخراط بأداء الغرب وحضارته رغم معاداتها المعلنة من قبله, انه القصور والعجز والقبول بالمتخيل الوهمي الاسطوري لإرضاء ذات نفسها وهمية غير قادرة على الانخراط بواقعها حد الفعل بقدر استعدادها لمحاربة ذاتها الجمعية من خلال فرديتها بمعاودة الانتماء لذوات اخرى تعيش بداخلنا رغما عنا ورغم رفضها العلني من قبلنا وببساطة لأننا ندرك حقا انها انتصرت ولا نريد التصديق وهذا يجعلنا نعيش حالة اغتراب قسري كمسلوبين لإرادتنا نقبل سرا حد التماهي ما نرفضه علنا حد التعصب.
بقلم
عدنان الصباح