الإنتخابات هي الوسيلة المثلى التي تلجأ إليها كافة الدول الديمقراطية لمواجهة الأزمات والمعضلات التي قد تواجه نظمها السياسية وأزمتها الدستورية، للخروج من حالات الإستعصاء السياسي والدستوري التي قد تتعرض إليه نظمها ومؤسساتها، من تشريعية أو تنفيذية.
لقد دخل النظام السياسي للسلطة الفلسطينية في مأزق سياسي ودستوري منذ أقدمت حركة حماس على إنقلابها على ذاتها وعلى السلطة في 15/7/2007م وتمردها على النظام السياسي العام، وإنفرادها كحركة سياسية في السيطرة على قطاع غزة، والذي يمثل المحافظات الجنوبية للسلطة الفلسطينية، وجزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة والخاضعة للسلطة الفلسطينية بموجب إتفاقات أوسلو الموقع في 13/9/1993م بين م.ت.ف والكيان الصهيوني ...
وقد مرَّ على الإنقلاب ما يزيد على أحد عشر عاماً، وبقيت حركة حماس تفرض سيطرتها المنفردة على القطاع كسلطة أمر واقع، ولم تدخر القوى الفلسطينية المختلفة، والجامعة العربية التي كلفت جمهورية مصر العربية بمهمة إيجاد حل لهذا المأزق الفلسطيني، وغيرها من الدول العربية وخصوصاً المملكة العربية السعودية من بذل أقصى الجهود لإيجاد حل ينهي هذا الإنقلاب الحمساوي (الإخواني) إلا وبذل، وقد إصطدمت كافة هذه الجهود بالعقبات التي وضعتها حركة حماس، مصرة على إستمرار تفردها بفرض سيطرتها الفعلية والمنفردة على القطاع، تحت مبررات لا تتعدى المصلحة الحزبية، مسقطة كافة الإعتبارات الوطنية والدستورية، التي تفرض على أي عاقل أن يقدمها على المصلحة الفصائلية والحزبية، مراهنة على عامل الزمن وما يفرزه من تغيرات سياسية في الإقليم تدعم هذا التفرد والتمرد، مما وضع النظام السياسي في حالة من الشلل مكنت القوى العابثة من إقليمية ودولية وفي مقدمتها الكيان الصهيوني من تحقيق الكثير من غاياتها على حساب الشعب الفلسطيني ومستقبل قضيته.
أمام إستمرار هذا الوضع الشاذ وتفاقم أزمة النظام السياسي للسلطة الفلسطينية، كان لابد من إتخاذ سلسلة من الإجراءات السياسية والقانونية من أجل إنهاء هذا الإنقلاب والتمرد والتفرد في فرض سلطة الأمر الواقع على قطاع غزة وإستعادة وحدة النظام السياسي والخروج من المأزق وإغلاق كافة الثغرات التي أحدثها في الجسد الكياني للشعب الفلسطيني.
هنا لابد أن يكون دوراً للقانون بعد إستفاذ كافة الوسائل السياسية من مقاربات ووساطات وحوارات، فقد جاء قرار المحكمة الدستورية الذي أعلن عنه الرئيس الفلسطيني أمس 22/12 الجاري خلال جلسة للقيادة الفلسطينية، والمحكمة الدستورية التي يقف على رأسها (الأستاذ الدكتور محمد عبد الغني الحاج قاسم)، فقيه القانون الدستوري والأكاديمي المعروف على مدى أربعة عقود في جامعات المغرب الشقيق وكذلك في جامعة النجاح الوطنية في نابلس والمشهود له بالكفاءة والنزاهة والشفافية بالرأي الحصيف المستند أساسا لروح النظام الأساسي، وما تقتضيه مصلحة إستمرارية النظام السياسي الفلسطيني، وما يخوله للرئيس من سلطة دستورية وتقديرية في ظل غياب وتعطيل المجلس التشريعي بفعل القوة القاهرة على مدى أكثر من أحد عشر سنة وما يفرضه الواجب عليه للحفاظ على النظام السياسي وتحقيق المصلحة الوطنية الفلسطينية أن يتم حل المجلس التشريعي الذي جرى إنتخابه قبل إثني عشرة سنة وفازت حركة حماس بأغلبية مقاعده حينها، والتي إتخذت من هذه الأغلبية غطاء لتمرير إنقلابها على النظام السياسي والإستفراد بحكم قطاع غزة في محاولة منها لإبتزاز النظام السياسي برمته وتطويعه لصالح أجنداتها وإرتباطاتها الحزبية (الإخوانية) ضاربة بعرض الحائط ما يخلقه هذا النهج من نواتج كارثية سياسية وإقتصادية وإجتماعية تركت أبلغ الأثر السلبي على الشعب الفلسطيني ومستقبل قضيته.
بالتالي عندما تقرر المحكمة الدستورية العليا في فلسطين حلّ المجلس التشريعي وإجراء إنتخابات خلال مدة أقصاها ستة أشهر، تكون قد وضعت وشرعت الخطوة الأولى لخروج النظام السياسي الفلسطيني من المأزق الذي صنعه إنقلاب حركة حماس وإستمرار تفردها كسلطة أمر واقع لقطاع غزة، وإنهاء حالة التشرذم والإنقسام التي يعاني منها الشعب والنظام السياسي الفلسطيني، والإنتخابات هي الآلية الوحيدة التي تخرج الحالة الفلسطينية من مأزقها، سواء منها على المستوى البرلماني أو الرئاسي، وستكون بالتأكيد الخطوة التالية هي إنتخابات مجلس وطني واحد وتوحيدي لـ م.ت.ف وسلطتها الوطنية ومن ثم إنتخاب رئيس دولة فلسطين العضو المراقب في الأمم المتحدة وليس رئيس سلطة فلسطين وفق (إتفاق أوسلو) الذي جرى تجاوزه واقعياً وزمانياً على مستوى طرفيه فالكيان الصهيوني أخل بكافة التزاماته ومارس ممارسات عديدة في محاولة منه لخلق وقائع تحول دون إتمام عملية السلام، وكان الرد الفلسطيني طبيعياً أن يخطو هو الآخر خطوات أحادية ولكنها قانونية للحفاظ على حقوق شعبه المشروعة في التوجه إلى المجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة وتثبيت مؤسساته الوطنية وتصليب صمود الشعب الفلسطيني في وطنه ومواجهة الإجراءات التعسفية والقمعية التي يتعرض إليها على يد الإحتلال الإسرائيلي.
وبناء عليه نرى أنه من المتوجب على جميع القوى الفلسطينية أن تنظر لهذا الإجراء نظرة قانونية وليس (عصابية سياسية) كخطوة أولى سيتبعها خطوات أخرى لإنهاء حالة التمزق السياسي والتشرذم والإنقسام والبدء في معالجة كافة الآثار التي خلفتها تلك الحقبة السوداء التي أحدثها إنقلاب 15/7/2007م، وأن ترجح المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني بعيداً عن الإجندات الحزبية والفصائلية وإرتباطاتها الإقليمية والدولية، وأن يكون صندوق الإقتراع والإنتخابات وما تفرزه من نتائج هي الآلية النزيهة والشفافة لإستعادة الوحدة الوطنية وإستعادة وحدة النظام السياسي وفعاليته وتحقيق الشراكة السياسية النظامية والنضالية والوطنية بين كافة مكونات الحياة السياسية والنضالية الفلسطينية على طريق تحقيق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني.
فالإنتخابات هي الحل، ولا مصلحة تعلو على المصلحة الوطنية والوحدة الوطنية ووحدة الشعب الفلسطيني ووحدة أراضيه كوحدة جغرافية واحدة غير قابلة للتجزئة والإنقسام.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس