إذا كان بالإمكان تجاوز أعياد ميلاد الأبناء والبنين فليس بالإمكان تجاوز عيد ميلاد الأب والأم. حين يكثر الأبناء والبنون، تصبح الاحتفالات بأعياد كل منهم مكلفة، ويكون من الأفضل أن يحتفل الجميع بعيد ميلاد واحد. هذا هو حالنا مع حركة فتح، التي تدشن مع بداية هذا العام ذكرى انطلاقتها الرابعة والخمسين رغم صعوبة الظروف الداخلية والخارجية التي تنطوي على مخاطر جمّة على الكل الفلسطيني، وعلى القضية برمّتها.
لم يكن الذين أطلقوا الفكرة، في خمسينيات القرن الماضي، من مشاهير الشعب الفلسطيني، فلا هم من نخبة المفكرين والمثقفين، ولا هم من نخبة الأغنياء، ولكنهم، أيضاً، لا يحتسبون بمعايير ذلك الزمان من فقراء الشعب الفلسطيني، الذي لتوه هُجر من البلاد ويئن تحت وطأة ظروف حياتية صعبة ومعقّدة.
معظم الأوائل الذين أطلقوا شرارة الفكرة، كانوا موظفين في دول الخليج العربي، وكان بإمكانهم أن يعيشوا حياة جيدة، لكن الفكرة الوطنية كانت أقوى من ظروف مطلقيها وحامليها.
ولعلّ الأهم أن من يحظون بشرف إطلاق الفكرة، كانوا شباباً لا تزيد أعمارهم على الثلاثين عاماً، والأمر ينطبق على قادة الثورة الآخرين من جورج حبش ورفاقه، إلى نايف حواتمة ورفاقه وأحمد جبريل ورفاقه وصبحي غوشة ورفاقه، وآخرين لا يتسع المقام لتناول أسمائهم.
كانت الفكرة تقوم على أن الشعب الفلسطيني لا يجوز له أن يراهن لتحرير أرضه، على الأنظمة العربية، حتى في ظل قيادة الزعيم القومي العربي جمال عبد الناصر، الذي لم يحظَ زعيم عربي آخر بالشعبية التي حاز عليها.
كان على الفلسطينيين أن يتقدموا صفوف الأمة العربية في الكفاح من أجل تحرير بلادهم، وبدون إهمال أو تجاهل لدور الأمة العربية.
وكان لا بد من تجسيد الفكرة، من خلال الكفاح المسلح، ولذلك كانت الطلقة الأولى التي أشعلت نيران الثورة في الفاتح من يناير عام 1965.
لقد استلهم الأوائل، المؤسسون، الفكرة من الثورة الجزائرية بما في ذلك حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي كانت جزائرية بامتياز، وغير مقيدة بأيديولوجيا معينة، طالما أن التحرير يشكل مصلحة لكل الشعب.
كان لا بد من صياغة أيديولوجيا الحركة، بما يتطابق مع الوطنية الفلسطينية بما تنطوي عليه من اتساع، وتنوُّع، سياسي وفكري واجتماعي وحتى ثقافي.
الوطنية الفلسطينية «كأيديولوجيا»، تصلح لأن تستوعب كل الأيديولوجيات الحصرية، وكل الاختلافات الطبقية والاجتماعية والسياسية، فكانت تلك «الأيديولوجيا»، عنواناً لبداية شكل الهوية الوطنية الجامعة.
ولكن الفكرة الملهمة الأخرى، تجسّدت بعد ذلك في رؤية وطنية، لتوحيد كل القوى المتنافسة، وحتى المتصارعة وما أكثرها، الأمر الذي تحقق بعد انتقال قيادة المنظمة إلى الفصائل عام 1969، برئاسة الشهيد الكبير ياسر عرفات.
خلافات وأزمات كثيرة مرت على منظمة التحرير، وبين فصائلها الرئيسية، لكن عرفات لم يفقد البوصلة، وظل يقاوم محاولات تشتيت منظمة التحرير، حتى حين وقع الانقسام عميقاً على خلفية توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993.
إثر هزيمة حزيران، توفرت اللحظة المناسبة لإعلان الثورة الفلسطينية المسلحة، انطلاقاً من الأردن، وظهرت معالم استراتيجية حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، فملأت في الوقت المناسب، الفراغ الذي أحدثته الهزيمة، إلى أن تمكنت الجيوش العربية من النهوض مجدداً.
في مسيرة «فتح» ما يدعو للاستغراب والتأمل، بما له علاقة بسؤال كيف لحركة مرنة، واسعة، ذات أبعاد شعبية شاملة أن تصمد وتبقى رغم كل ما مرّ عليها من أزمات، ومؤامرات، ومحاولات لإضعافها، وما الذي يجعلها قادرة على الحياة والاستمرار بدورها الرائد رغم كل ما تتعرض له من انتقادات؟
صحيح أن وزن فتح في الحركة الوطنية الفلسطينية، لم يعد كما كان في عقود ما قبل أوسلو، فلقد نجحت «حماس» في دخول حلبة المنافسة بقوة، لكن «فتح» تظل شامخة، وفي موقع الأب والأُم.
السرّ في ذلك، هو أيديولوجية الوطنية الفلسطينية، والتمسك بالأهداف الوطنية، وبالهوية الوطنية الكفاحية، على الرغم من الإشكاليات والأزمات التي تتعرض لها، بسبب إشكالية العلاقة بين ما يمكن اعتباره الثورة والدولة. لقد أدركت «فتح» مبكراً أن التحرير يحظى بالأولوية على بناء المجتمع الاشتراكي أو الإسلامي، أو القومي، فمن لم يكن وطنياً ناجحاً لا يمكن أن يكون أُممياً أو إسلامياً ناجحاً.
بقلم/ طلال عوكل