من الشيخ إلى المهندس.. التحول الدراماتيكي في الصراع

بقلم: سري سمور

قبل حوالي 37 عاما اشترت أمي شريط كاسيت لفرقة العاشقين كان العبد الفقير طفلا عمره 8 أعوام، يشغله ما يشغل سائر الأطفال، مضافا له شغف المعرفة؛ وانجذبنا إلى الكلمات وكنا نعيدها؛ كانت الأغاني باللحن والصوت الشجي الذي هزّ أعماقنا تحكي قصة ثورة البراق 1929 والشهداء الثلاثة على إثرها (فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير) وتنتقل إلى حكاية الاسم التي أول مرة أسمع به مع سائر الأسماء السابقة:-
 

عالعميّم عالعمام

رفرف يا طير الحمام

رفرف على فلسطين

والشعب الحر المقدام

من عام 22 بعد الـ 36

كل عموم فلسطين

صارت ساحة للقسام

ما كانت جولة يعبد

آخر خطوة للأمام

كانت هي البداية

والباقي جاي قدام

تعالوا من البداية

شوفوا معنا الحكاية

ورح نرفع البرداية

من يوم ما وصل القسـام

 

هذه أول مرة يذكر فيها اسم القسام أمام طفل كان فضوليا يريد ان يعرف كل شيء حول أي شيء في أسرع وقت وحتى ما لا قد يسعه فهمه. وحتى اللحظة لم أفهم معنى مطلع الأغنية (عالعميم عالعمام) بالضبط وربما هي تشبه كلمات الأغاني في الفولكلور الشعبي الفلسطيني مثل (دلعونا وميجانا...إلخ) وربما لها معنى محددا، ولكن لا يهم فبقية الكلام واضح للطفل، وخاصة مع تكراره، وسيسهل عليه طرح الأسئلة التي إجاباتها سهلة على فهمه.

 

هذا قبل أن تمضي الأيام، وتعصف بالقضية الفلسطينية تغيرات كثيرة، لن تكون فرقة العاشقين بعيدة عنها، وسيكون من السهل بحكم تطور التقنيات، رؤية صور أعضاء الفرقة الذين كنا نسمعهم عبر الكاسيت، مع زيادة الوعي ووسائل المعرفة التي تمكننا من التعرف على شخصية من صارت كل عموم فلسطين-بنص الأغنية- ساحة له.

 

الشيخ الأزهري الثائر

شيخ قدم من سورية، واستشهد في أحراش بلدة يعبد، ويعبد قريبة من جنين حيث أعيش، وهو يقاوم الإنجليز، هذه كانت الإجابة عن السؤال الذي سأله الطفل بفضول المعرفة: مين القسام؟ واسمه الأول (عز الدين) الذي يذكر في أغنية أخرى في نفس الكاسيت (أبو إبراهيم ودع عز الدين دمو عربي وقلبو فلسطيني).. طبعا ستمضي سنوات طويلة حتى أعرف من هو (أبو إبراهيم) أي (خليل محمد عيسى) الذي يعتبر خليفة القسام في القيادة.

 

وستتراكم المعرفة وحجم المعلومات تدريجيا عن تفصيلات حياة أخرى تتعلق بالرجل، مع أن الإجابة الموجهة للطفل كافية من حيث تلخيصها لحياته، وتختزل في طياتها تفصيلات كثيرة، ولربما تجيب عن طبيعة الصراع والقضية وغير ذلك. سنقرأ كثيرا عن (الشيخ عز الدين القسام) وسنشاهد وثائقيات مرئية حوله، إضافة إلى مسلسل تلفزيوني قصير شاهدناه في مرحلة الشباب الأولى لعب دور الشيخ فيه الممثل السوري (أسعد فضة) وكتبه وكيل وزارة الثقافة الفلسطيني السابق (أحمد دحبور).

 

ورواية (رجل لكل الغزاة) لكاتبها (د. عماد زكي) التي استعرت نسختها الورقية من (أحمد) وهو حفيد الشيخ والذي كنت قد أرسلت له نسخة إلكترونية منها، فسعى سعيه حتى جلب عدة نسخ ورقية؛ وقرأنا وطالعنا مقالات ودراسات مختلفة حول هذا الرجل. شيخ أزهري (درس في الأزهر 10 أعوام أي في زمننا دكتور شريعة) انتقل إلى فلسطين من جبلة بعدما عارك المحتل الفرنسي في الساحل السوري، وحشد لجهاد الطليان الذي احتلوا ليبيا في عصر ضعف السلطنة العثمانية، فما الذي جعله يمثل نقطة تحول في الصراع على أرض فلسطين، دون كثير غيره ممن كانوا قبله وممن جاؤوا بعده؟

 

مدرسة ونهج

ربما طبيعة نشاط الشيخ عز الدين القسام جعلته يتكتم، ويكون لديه نوع من السرية، وربما أيضا لأنه شخص واع متعلم خبر الحياة والجهاد في غير مكان، ورأى تكالب الأعداء على ديار المسلمين وطمعهم ودمويتهم، ومن حوله غالبيتهم بسطاء تغلب عليهم الحمية الدينية أو العربية والجهاد بالفطرة دفعته أن يكون مباشرا في طرحه وطريقة الحشد والتعبئة، والالتزام بنسق فكري إصلاحي دعوي لم يلجأ إلى إظهاره إلا قليلا، خاصة في قضية الكتاب الذي أصدره الشيخ القسام مع زميله القصاب (النقد والبيان في دفع أوهام خزيران). ومن الطريف أن سلفيين معاصرين من مدرسة الجمود والمحافظة، والتشكك في الثورة والجهاد، ينشرون الكتاب المذكور في مواقعهم الإلكترونية باحتفاء بالغ كونه يلتقي مع رؤيتهم بعدم جواز رفع الصوت في الجنائز.

 

على كل هذه المسألة تعطي فكرة عن الشيخ؛ كونه ينتمي ولو فكريا، إلى مدرسة إصلاحية تتوخى اتباع الكتاب والسنة، ومحاربة البدع التي أدخلها بعضهم على الدين، فصارت كأنها من صلب الدين، وهو بهذا يلتقي مع إصلاحيين في زمانه أو مكانه، وفي نفس الوقت يرى أن مهمة العالم أو إمام المسجد، لا تقتصر على قضايا تعليم الناس العبادات والإفتاء في شؤون حياتهم اليومية، بل تتعداه إلى القضايا العامة والكبرى المصيرية، أي قضية الاحتلال/الانتداب البريطاني الذي يمكّن للمهاجرين اليهود في فلسطين سرّا وعلانية.

 

حقيقة لقد قام الشيخ بما تقتضيه مهمته كإمام مسجد (الاستقلال) إضافة إلى رفع راية الجهاد ممارسة وتحريضا وحشدا ثم استشهادا، ليتحول إلى مدرسة متواصلة تعيد إلى الأذهان دور العالم الشافعي (العز بن عبد السلام) في مصر في محاربة التتار، ولاحقا دور العالم الحنبلي (أحمد بن تيمية) في محاربتهم في الشام، وبالتوازي مع حركات/مدارس/تيارات إسلامية جهادية في شمال أفريقية (الباديسية والخطابية والسنوسية). نهج لخصه بمقولته المشهورة (إنه لجهاد.. نصر أو استشهاد) المأخوذ من النص القرآني في سورة التوبة؛ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟

 

 

فصار مدرسة متواصلة، ونهجا واضحا، لا يحتاج إلى كثير من الفذلكات لفهمه، ومثّل نقطة تحول في الصراع مع المشروع الصهيوني الذي كان على موعد مع إقامة دولته التي ستعترف بها دول العالم الظالم بعد 13 سنة من استشهاد القسام (استشهد الشيخ في الثلث الأخير من تشرين ثاني/نوفمبر سنة 1935م). فغرس القسام أثمر مباشرة بتهيئة الساحة لانفجار الثورة الكبرى بعد بضعة أشهر من استشهاده، وغرس آخر مستمر جعله أيقونة جهادية، سواء لمن أراد الجهاد على بصيرة، أو أراد استلهام دور البطولة والتضحية؛ فقد كان القسام وما زال مدرسة متكاملة لكل هذا فعلا.

 

المهندس الشاب الثائر

بعد إحدى وثلاثين حجة وتحديدا في مثل هذه الأيام سنة 1996م سيستشهد شاب عمره 30 عاما ليكون نقطة أخرى من نقاط التحول المركزية المؤثرة في الصراع، وهذا الشاب هو (يحيى عبد اللطيف عياش) المعروف بـ(المهندس). لقد استشهد في ظروف سياسية وأمنية واجتماعية مختلفة اختلافا كثيرا عن ظروف استشهاد الشيخ الذي صار اسمه وسما للجناح العسكري الذي سيكون المهندس أحد أبرز وأهم قادته ومؤسسيه، وناقليه إلى مراحل جديدة، هو والحركة التي ينتسب إليها هذا الشاب والتي لم تكن قد بلغت من العمر سوى 9 أعوام فقط.

 

والتحول بما يروى بأن المهندس قاله: بإمكان اليهود اقتلاع جسدي من فلسطين، غير أنني أريد أن أزرع في الشعب شيئا لا يستطيعون اقتلاعه. وسواء قال المهندس هذه الكلمات بلسانه أم لا، ولكن لسان الحال فعلا هو كذلك؛ فالشاب الذي درس الهندسة هذه المرة، قلب كل المعادلات وغير دفة الصراع إلى اتجاه جديد، ومدرسة مختلفة الأسلوب، تركت وما زالت بصماتها على مجتمع العدو وقيادته، وعلى الشعب الفلسطيني الذي هو بالتأكيد قبل العياش ليس كما بعده في حياته أو شهادته.

سري سمور
    كاتب ومدون فلسطيني