في التاريخ اليمني وفي القرن السادس عشر، غزت البرتغال اليمن فلم يهنأ البرتغاليون بغزوهم بمقاومة القبائل اليمنية، وظهر على السطح رجل تشتعل في دماءه الثورة قاد المقاومة اليمنية في ذلك الوقت (عام 1514) فأخذ إجماع كل القبائل وقاد المقاومة اليمنية وكان له دعمًا لوجستيًا لم يفهم اليمنيون مصادره في حينه، ولكن تبين بعد وقت أنه قاد صلحًا مع البرتغال على أن يقتطع جزء يسير من أراضي اليمن تحت حكمه وتبقى باقي البلاد تحت السيطرة البرتغالية. ربما في التاريخ عظة وربما تتكرر أحداثه ولكن بشكل آخر وبمنطق آخر وبجغرافيات متعددة ولوحات أخرى متعددة.
في عام 1938م تشكّلت فصائل أو كتائب السلام في فلسطين بقيادة فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي والأخير كان له منطق ثوري عارم يدعو للثورة ومحاربة الإنجليز والصهاينة وما لبث بعدما كان يشبه نفسه بصلاح الدين أن شكّل كتائب السلام وهو من أكبر قياداتها، علمًا بأن الخلاف بين عبد القادر الحسيني وراغب النشاشيبي كان من أهم عوامل اجهاض ثورة 1936م وبرنامج الكفاح المسلح الذي اعتمده الحاج أمين الحسيني، فبعدما تزايدت أعمال الثورة في حوالي 18 عملية مسلحة نوعية حررت كثير من القرى والبلدات الفلسطينية في الأشهر الأولى من عام 1936م وفي مقدمتها المدينة القديمة إلى أن تراجعت الثورة عندما تمكن الجنرال تشارلز تيغارت (على غرار دايتون واعداد قوى الأمن في اتفاقية أوسلو) من تشكيل تلك الكتائب وتشكيل قوى الشرطة التي تطارد الثوار وتتابع تحركاتهم وعملياتهم وتجمعاتهم وبالتالي اضمحلت الثورة ونفي بشكل مبكر الحاج أمين الحسيني بعد مطاردة إلى لبنان وانتهت اللجنة العربية العليا وانتهت الثورة وتمددت عصابات أرغون وشتيرن والهاغاناة برعاية بريطانيا وكتائب السلام الفلسطينية التي يقودها النشاشيبي.
لقد أردت من سرد تلك الأحداث أن أشير إلى المجزرة التي ارتكبت بحق البرنامج الوطني الفلسطيني بمؤشرات لا تبتعد عن سلوك البيروقراطية التي كانت لدى مجموعة كتائب السلام وارتباط مصالحها مع الإسرائيليين والبريطانيين. تلك المجزرة التي تهاوى فيها البرنامج الوطني بحده الأدنى وهي فرضية إقامة الدولة على أراضي 1967م والذي اضمحل لسلطة حكم ذاتي منقوص في الضفة وغزة وبعض تشكيلات وتأسيس ما يسمى مؤسسات سيادية لا تعدو كونها إدارات في ظل التفاهمات الإتفاقيات مع الإحتلال. المهم هنا أنه من نتائج ما يسمى تطوير أوسلو في إتجاه حكم ذاتي كامل، كانت الإنتخابات التشريعية التي فازت فيها حماس على فتح ومن ثم بدأت بوادر الإنقسام الذي أدى إلى كثير من التداعيات الثقافية والأمنية والإقتصادية في كل من الضفة وغزة وكان له العمق والبعد الأساسي في إجهاض أي برنامج وطني يعود للبوتقة الأساسية للصراع، لا نريد هنا أن نتحدث عن كم مرة كانت هناك اجتماعات للمصالحة ولا الدول التي رعتها من مشارق الأرض إلى مغاربها، فذاك هو الإنقسام الذي ولد ليبقى، وأكرر هنا أمنيًا وجغرافيًا ووطنيًا وسياسيًا، لأنه متعلق أيضًا بتفكير الإحتلال واستراتيجيته وتفكير القوى الحاكمة في العالم واضمحلال وانهيار المنظومة الإقليمية في ظل عالم الإقتصاد وعالم المصالح.
رام الله تتحدث عن إتفاق 2011 و2014 وحماس تتحدث أيضًا عن نفس الوثيقتين، وكل منهما يريد تطبيق تلك القرارات والتفاهمات، ولكن ماذا يحدث؟ هناك مزيد من الخطوات التصعيدية التي تزيد عن المناكفات ولها منطلقات سياسية وأمنية مثل إجراءات الرئيس الفلسطيني تجاه غزة المالية والسياسية والأمنية أيضًا وبمقابلها إجراءات حماس على الأرض وسيطرتها ومؤسساتها السيادية أيضًا، كل يبني في جهته مؤسساته السيادية مع إختلاف البرامج واختلاف المنظور السياسي المرتبط بالمصالح الجماعية لكل من الضفة وغزة، وهنا كلما كانت هناك ظواهر إيجابية يتحدث عنها الطرفين يكون هناك حدث خارق يحرق كل ما تقدّم من تفاهمات، مثل مزيد من قطع الرواتب ومزيد من خطوات التصعيد كسحب موظفي المعبر الذي تتهمه السلطة في حماس بأنها تذل موظفيها في المعبر، منطق غريب وعجيب وكأننا في حارة يتقاتل فيها صبية بردات فعل، وتأتي عملية تخريب مؤسسة وطنية كتلفزيون فلسطين ذروة التصعيد وإن كان من قاموا بالفعل ليسوا من حماس، ولكن حماس بصفتها المسيطرة على قطاع غزة هي المسؤولة الأولى والأخيرة.
للخلف في الإتجاه المعاكس، فكل يعتقل العناصر المؤيدة والمناصرة للطرف الآخر وكأنها حالة استئصال سياسية وثقافية وتنظيمية تمهد لما بعدها. الإسرائيليون يتحدثون عن أن لا دولة فلسطينية وأن يبقى الوضع كما هو عليه، أي سلطة حكم ذاتي في الضفة مع برنامج مختلف عن سلطة حكم ذاتي في غزة مع توسيع دائرة الإلتزام بحلول إقتصادية أمنية إنسانية في غزة مع فتح المعبر، فبعد أن سحبت السلطة موظفيها أعلنت مصر وللحالة الإنسانية في قطاع غزة ودواعي الأمن القومي المصري أن يبقى المعبر مفتوحًا ولن تؤثر فيه أي مظاهر سياسية أو قرارات اتخذها أو سيتخذها الرئيس الفلسطيني فيما بعد. وهنا وكما قال القيادي في حماس الحية أن إسرائيل قد وافقت على مجمل الطلبات التي تقدمت بها حماس للجانب الإسرائيلي لفك الحصار والتخفيف عن غزة، وأعتقد أن إسرائيل أيضًا وصلتها التزامات حماس تجاه الهدوء على حدود غزة، إذًا الفلسطينيون يسيرون جميعًا في الإتجاه المعاكس لحركة التاريخ وللحركة الوطنية الجامعة للجغرافيا الفلسطينية والمطالب والحقوق الفلسطينية، فمن هو الذي سيتحدث عن حق العودة مثلًا، ومن هو الذي سيتحدث عن القدس، ومن هو الذي سيتحدث عن الدولة الفلسطينية في الضفة أو غزة، وما هو برنامج كل منهما في ذلك، إنها عقدة مركبة تحتاج الخروج من المعتاد إلى ما هو غير معتاد ونمطي، فهل يستطيع الشعب الفلسطيني أن يصل إلى مرحلة غير المعتاد وإلا من يتحدث باسم فلسطين التاريخية والعودة وملحقاتها، إنه التراجع فما عدنا نتحدث عن مصالحة وإنهاء إنقسام بل المطلوب الآن التحدث عن كيف يخرج الشعب الفلسطيني من محنته ومحنة برنامجه الوطني.
بقلم/ سميح خلف