في يوم مولده. هذا الرجل يختزل تاريخاً

بقلم: عبد الناصر فروانة

قبل أن أبصر النور، كان ثائراً، وبعد أن ولدت وتقدمت قليلاً في طفولتي، دخل السجون مقيداً بالسلاسل. وبعد أن عرفت للمدرسة طريقاً وجلست على مقاعد الدراسة في صفوفها، رأيته أسيراً يجلس بجانب "والدي" خلف شبك الزيارة في سجن بئر السبع جنوب فلسطين، وكان وجهه مبتسماً ويشع نوراً، ولسانه ينطق بكلمات تغرس في قلوبنا حب الوطن، وتشعل في نفوسنا لهيب الثورة وتبعث فينا الأمل. فبقيت صورته ماثلة أمامي واسمه محفوراً في ذاكرتي، واليوم تقدم بالعمر قليلاً ومازالت فلسطين تسكن خلده، إذ بات فهرساً للقدس، ومرشداً لمن يهمه التعرف على تاريخها، ومقصداً ومرجعاً لتاريخ الحركة الوطنية الاسيرة يعتد به، فقد تواصلت معه وتبادلت الحديث عن ذكرياته، واستمتعت بما تختزله ذاكرته من معلومات. انه الأسير المحرر والمناضل الفلسطيني المقدسي/علي جدة.

ففي مثل هذا اليوم الثالث عشر من كانون ثاني/يناير عام 1950، كان مولده في مدينة القدس المحتلة، وقد نشأ وتربى وترعرع في أزقة القدس العتيقة، وفي الخامس من آب/أغسطس عام 1968 كان على موعد مع الاعتقال، حين داهمت قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي بيت أسرته وكبلت يديه بالسلاسل وعصبت عينيه وتوجهت به الى حيث لا يدري، ليدرك بعدها أنه بين زنزانة صغيرة يحيطها سجانون كُثر. فأخضع لتعذيب قاس، جسدي ونفسي، ومن ثم حكم عليه بالسجن الفعلي لمدة عشرين سنة بتهمة الانتماء للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمشاركة في عمليات فدائية ضد الاحتلال.

وقبل ان يُطلق سراحه ضمن صفقة تبادل الأسرى الشهيرة وما تُعرف فلسطينياً "عملية الجليل" في العشرين من آيار/مايو عام 1985، كان قد أمضى سبعة عشر عاماً متتالية تنقل خلالها بين عدة سجون أبرزها: الرملة، عسقلان، السبع، الدامون ونفحة.

"علي جدة" الذي قضى سبعة عشر عاماً خلف قضبان سجون الاحتلال، لم يستسلم يوماً للسجن  وظروفه القهرية، أو للسجان وقهره، بل سعى دوماً إلى تغيير الظروف نحو أفضل والبحث عن أدوات تساعده والجماعة على استثمار الوقت عملاً بالقول: ان كانت الظروف هي التي تخلق الإنسان، فعلينا أن نخلق ظروفا أكثر انسانية. فكان دائم الاحساس بالمسؤولية، الفردية والجماعية، واينما ذهب، وفي كل الظروف والأزمنة، جسد مقولة غسان كنفاني: الإنسان قضية. وكان قائداً ومعلماً، ونموذجاً يُحتذى لكافة الأسرى على اختلاف انتماءاتهم، الفكرية والسياسية، وعمل ممثلا للأسرى لسنوات طويلة وفي سجون كثيرة، وكان يتميز بعلاقات وطنية واسعة.

"على جدة" كان يدرك أهمية تعلم القراءة والكتابة، ويؤمن بضرورة امتلاك الأسير للوعي والثقافة، ويعلم بقيمة التسلح بالفكر والمعرفة، فاهتم بنفسه وتميز بالقراءة والمطالعة الذاتية، وثقف ذاته وسعى دوماً الى تطوير قدراته على أكثر من صعيد، ونجح في تحقيق ما أراد. فأضحى واحداً من المثقفين المميزين في السجون، وبجانب العربية علم نفسه ثلاث لغات وأتقنها(الإنجليزية، الفرنسية، العبرية) وقد ترجم العديد من الكتب من وإلى العربية.  وبعد تحرره أصبح مرشدا للزوار القادمين الى القدس ومرجعاً لهم، وفهرسا لمن يبحث عن تاريخ العاصمة المقدسة وأصالتها العريقة.

"علي جدة" هذا الرجل الأسمر، القاطن في حي الجالية الأفريقية-باب المجلس في البلدة القديمة بالقدس المحتلة، يعرفه المقدسيون جيداً، فهو علم من أعلام المدينة البارزين، وتشهد له شوارع القدس العتيقة بسيرته النضالية وتاريخه المشرف، وتعرفه الوفود الزائرة على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم، ونعرفه نحن الأسرى ونردد اسمه بفخر وعزة كواحد من الرعيل الأول وأحد أبرز مؤسسي الحركة الوطنية الأسيرة وقياداتها ومشعلي ثورة العلم والتعليم في السجون.

"علي جدة" وبعد تحرره من السجن منتصف عام 1985، تزوج من فتاة فلسطينية تقطن مدينة عكا شمال فلسطين، وانجب منها  خمسة ابناء، وعمل صحافياً ومترجماً ومرشداً للوفود القادمة الى القدس ليشرح لهم بلغاته المتعددة التي يتقنها بجدارة، فأضحى فهرسا للقدس، وتميز في عمله دوما كما هو دائما، فأصبح عنواناً لأولئك القادمين.

"علي جدة" المريض الان، لم يعد قادرا على ممارسة عمله كالمعتاد، لكنه ليس عاجزاً على مواصلة واجبه الوطني ومرافقة الوفود ان سُمحت له ظروفه الصحية. فيما ما يزال هذا الرجل يختزل ذاكرة أجيال مضت وأخرى حلت. ويختزل تاريخاً سُطر خلف القضبان وما زال مستمراً. فما أن اتصلت به وعرفته على نفسي، حتى بدأ بالترحاب، واسترسل بالحديث في سرد ذكريات الماضي واستحضر ذكريات عقود مضت ليحدثني عن البدايات الأولى للسجون وفترة معايشته لـ "والدي" رفيق دربه في سجن بئر السبع. تلك الفترة التي يصفها بأنها كانت الأجمل من بين الفترات الطويلة التي قضاها في سجون الاحتلال.

"علي جدة"، المناضل والأسير لسبعة عشر سنة متتالية، والمثقف الثوري الذي يجيد ويتقن التحدث بثلاث لغات (الإنجليزية والفرنسية والعبرية)، وعاشق القدس وفهرسها، ليس مسؤولاً رسمياً، ولم يتبوأ من قبل منصباً رسمياً..!  

تسعة وستون عاما وما انتهت صلاحيته أو مُسحت ذاكرته. وما توقف عطائه ما دام في العمر بقية.  وكل عام وأنت بألف خير. 

 

بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة