رواية في منتهى الروعة والعمق والإبداع الإنساني للروائي والفيلسوف والشاعر والمفكر اليوناني نيكوس كازانتزاكيس (ولد في 1883 وتوفي في 26/10/1957م)، على مدى عشرون فصلاً وثلاثمائة وواحد وخمسون صفحة يأخذك الروائي في سرد متواصل يسبر فيه أعماق الروح الإنسانية وتجلياتها في الحرب الأهلية التي شهدتها اليونان والتي قد بدأت بواكيرها أثناء الحرب العالمية الثانية ومقاومة المحتلين، نتيجة الصراع بين اليسار واليمين والذي بدأ عام 1943 واستهدف الإطاحة بالسلطة التي أنهت الإحتلال الألماني – الإيطالي أثناء الحرب العالمية الثانية ...
وفعلياً يؤرخ لهذه الحرب مابعد نهاية الحرب العالمية الثانية واستمرار الصراع بين اليسار واليمين في الفترة من (1946 - 1949م) بين جيش الحكومة اليونانية المدعومة من قبل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبين الجيش الديمقراطي اليوناني (قوات الأنصار) وهو الجناح العسكري للحزب الشيوعي اليوناني والذي كان له دوره الفعال في مقاومة الإحتلال الألماني – الإيطالي الذي تعرضت له اليونان أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان مدعوماً من قبل يوغسلافيا وألبانيا وبلغاريا والنتيجة كانت هزيمة المتمردين الشيوعيين (قوات الأنصار) من قبل قوات الحكومة، بسبب تخلي جوزف ستالين عن دعم قوات الأنصار وإلتزامه لونستن تشرشل بذلك، والذي شكل قضية خلافية مع جوزيف بروس تيتو، وتعتبر هذه الحرب الأهلية اليونانية من أول النزاعات التي إندلعت بعد الحرب العالمية الثانية وبداية مرحلة الحرب الباردة وقدمت أول الأمثلة على تورط بعض الدول في الشئون السياسية الداخلية للدول الأخرى، وقد ذهب ضحيتها أكثر من مئة وستون ألفاً من الضحايا عدا الجرحى والمهجرين نتيجة تلك الحرب ...
هذه الرواية قد أتممت قراءتها بالأمس 27/1/2019م والتي أشعرتني بشديد الألم ليس فقط على ما تعرضت له اليونان في تلك الحقبة، والتي صورتها في أدق صورها المؤلمة لما خلفته من ضحايا ومآسي وضرب لمنظومة المفاهيم الوطنية والإجتماعية والعقدية للمجتمع، بل فيما تقدمه من تصوير ومحاكاة لواقع العديد من دولنا العربية التي تعرضت لمثل هذه الحرب الأهلية من لبنان إلى العراق إلى سوريا إلى ليبيا إلى السودان إلى اليمن اليوم ..
فالحرب هي الحرب في أي مكان وأي زمان، الثوار هم الثوار، والظلم هو الظلم، والفقراء هم الفقراء، والضحايا هم الضحايا، والدهماء هي الدهماء، والوطن هو الوطن، والشعب هو الشعب والتدخل في شؤون الآخرين هو التدخل في شؤون الآخرين ...
لقد عاش الكاتب في بداية حياته مع الرهبان ثم ثار عليهم ليقف مع الفقراء وهم السواد الأعظم من الشعب ومِلحُ الأرض هكذا هو المبدع والشاعر والمفكر والفيلسوف الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس الذي قدم في هذه الرواية شهادة إبداع إنسانية خالصة وخالدة لمعظم أعماله، وإن مثلت أعمق عمل أدبي فلسفي وفكري لديه (الإخوة الأعداء) من خلال غوره للروح الإنسانية وتطلعها ونزوعها نحو الحرية والعدالة والإنعتاق من القيود، كما سبر أغوار تلك الحرب الأهلية وأثرها في أعماق النفس البشرية وفي وحدة المجتمع الواحد والوطن الواحد، مخاطباً فيها كل إنسان يؤمن بالحق والخير والعدل والجمال، مبرزاً دور أطراف الصراع من قوى طبقية مجتمعية وقوى سلطوية زمنية أو دينية في صراع أقرب توصيف له يكمن في (حرب الجميع ضد الجميع) وتلك هي الكارثة الحقيقية التي تصيب المجتمعات التي تفقد مبدأ التوازن في تحقيق العدل والحرية وتتيح التسلط لفئة على فئة أو على بقية الفئات وعلى مقدرات الأوطان ...
فيعرض لنا الواقع الذي تعرضت له اليونان أثناء تلك الحرب الأهلية من خلال القومندان وعساكره ممثلا للحكومة، ورجل الدين الأب ياناروس ممثلاً للكنيسة، والثوري الذي يبحث عن معنى العدالة ليحققه للجميع حتى لأعدى أعدائه من خلال الكابتن، والضعفاء الذين ينفذون أوامر القومندان، ويحققون رغبات رجال الدين في إطار خريطة إجتماعية سياسية يعرف فيها الأغنياء والملاك مكانهم جيداً كما يعرفه الفقراء ...
تكتسب هذه الرواية أهميتها من بعدها الإنساني الثوري في كل العصور ومن خلال جملة التساؤلات الفلسفية والإجابات التي قدمتها فصول الرواية، والإشكاليات التي أبقتها معلقة أمام كافة الأطراف في نطاق البحث عن الحرية والعدالة في الحياة وما بعد الحياة ...
إنها عمل روائي إبداعي إنساني عميق يكشف حجم التناقضات الكامنة داخل المجتمع الواحد وداخل النفس البشرية، باحثا عن حلول إنسانية لها على أساس من العدالة والحرية.
رغم ما تحدثه من ألم في النفس وما تقدمه من حقائق الحروب الأهلية في بعدها الإنساني المتجاوز للمكان والزمان، فإني أنصح بقراءة هذه الرواية التي تحاكي وتقرأ ما تتعرض إليه بعض دولنا العربية اليوم.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
E-mail: pcommety @ hotmail.com
الرياض 28/01/2019م الموافق 22/05/1440هـ