الإمبريالية الجديدة.. ما بعد العولمة ما بعد الحداثة

بقلم: حسن العاصي

تتردد كثيراً في السنوات الأخيرة على لسان بعض المفكرين الغربيين، مصطلحات "ما بعد" ما بعد الرأسمالية، ما بعد الاستعمار، ما بعد الامبريالية، ما بعد العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد التاريخ. إن العولمة التي سعت من خلالها مراكز رؤوس الأموال الضخمة والشركات العملاقة، أن تجعل العالم أمريكياً، بحسب ما قال مرة الرئيس الأمريكي الشهير "فرانكلين روزفلت" الذي وصل إلى البيت الأبيض العام 1933 ومكث فيه 12 عاماً، في أصعب مرحلة واجهتها الولايات المتحدة، حيث شهدت الكساد الاقتصادي العظيم حينها، قبل أن يتمكن روزفلت من إحداث الإصلاحات الاقتصادية الكبيرة، هذا الرجل قال ذات مرة إن قدر العالم في النهاية هو أن يتأمرك.

السؤال الكبير: هل تمكنت العولمة من حذف الحدود والهويات وبناء عالم بلا جدران؟ الإجابة بظني نجدها في الارتدادات على ثقافة العولمة، من خلال عودة الشعوب في كثير من الأماكن، إلى جذورها القومية للدفاع عن مصالحها، فانفجرت الصراعات الإثنية والقومية والمذهبية والطائفية، التي أصبحت سمة العصر.

إذن حين يتحدثون عن مرحلة ما بعد العولمة، فهذا لا يعني أن العولمة كنظام عالمي قد أكملت وظيفتها وتطورت، بل على العكس إن ما يجري في العالم يؤكد أن العولمة شأنها شأن كافة مراحل الرأسمالية، ما هي إلا وسيلة لسرقة خيرات الدول النامية، حتى لو اضطر الغرب إلى استعمال القوة المفرطة، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان حيناً، وصيانة حقوق الأقليات حيناً، أو الدفاع عن الحلفاء ومحاربة الإرهاب أحياناً أخرى.

بذرة الرأسمالية

في الحقبة التاريخية الممتدة ما بين انهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس، وحتى القرن السادس عشر، كان الإقطاع يفرض سيطرته على ما يقارب من 95 في المئة من الأراضي في أوروبا والصين واليابان والهند. إن الرأسمالية نمت في أحشاء الإقطاع بوقت مبكر من ظهورها، حيث يذكر التاريخ انتفاضات متعددة قام بها المزارعين والعبيد ضد الإقطاع. كما يمكن آنذاك ملاحظة نشوء مراكز الإنتاج اليدوي في المدن الإقطاعية مترامية الأطراف، وكانت تضم جمعيات الحرفيين من نسّاجين وحدادين وصناع الأحذية والسيوف وسواهم، مما كان سبباً من أسباب تطور الرأسمالية لاحقاً. ترافق ذلك النشاط مع نمو مضطرد في عدد التجار واتساع رقعة تجارتهم وتنوعها.

الجشع وحب المال والرغبة في مراكمة الثروات، دفع التجار إلى بناء مدن قريبة من وسائل النقل النهرية والبحرية، مما أسهم في اتساع الأسواق الوطنية ثم العالمية، وفي زيادة الإنتاج، ونشوء شريحة من التجار الأثرياء الرأسماليين، وتراكم رأس المال بين أيدي هؤلاء أضعف الإقطاع، ولذلك كان الانتقال من شكل الإنتاج الإقطاعي مثيراً، حيث أصبح المنتج هو التاجر الرأسمالي، وانتقل الحرفيين تدريجياً إلى شريحة الأثرياء، مما أدى إلى توسيع وزيادة الإنتاج، وقاموا بتوظيف أموالهم لمضاعفة الأرباح، وبذلك يكون كبار التجار قد دفعوا مسيرة الاتجاه الرأسمالي خطوات للأمام نحو التشكل.

لأن النظام الإقطاعي كان يدافع عن بقاءه واستمراره ضد التطورات التي تحصل، كان للتاريخ رأي مختلف، حيث قامت الثورات البرجوازية ضد النظام الإقطاعي الذي كان يعيق نموها وتطورها، فأصحاب الرأسمال لم يستسلموا للقيود التي كانت الإقطاعية تفرضها على الأسواق المحلية، لأن التجار كانوا يتطلعون إلى الأسواق الخارجية. فتمت تصفية الإقطاع عبر ثورات رغم مقاومته العنيدة.

وهنا نشأ النظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والأرض. فمنذ نشأتها كنظام عالمي، والرأسمالية تسعى لأن تُخضع الكون لمتطلبات نموها، فعمدت إلى تكييف واقع الدول النامية كي تتلاءم مع شروط حركة الرأسمالية المتغيرة، وأزماتها المختلفة، بما يضمن استمراها وتضخمها. وبدأت مرحلة جديدة من الاستغلال ضحيتها هذه المرة الطبقة العاملة التي توسعت نتيجة الهجرة من الريف للمدينة، بعد أن فقد المزارعين الصغار مصدر رزقهم، فتحولوا إلى عمال في مصانع المدينة، حيث يراكم الصناعيين رأس المال، نتيجة الاستغلال البشع الذي يتعرض له العمال. الرأسمالية نفسها التي أوجدت الطبقة العاملة وجعلتها حطباً للموقد، جلبت الطبقة التي ستثور عليها لاحقاً مطالبة بحقوقها الاقتصادية والسياسية.

قبل الثورة الصناعية

شهدت فترة نهاية القرن الخامس عشر اكتشافات جغرافية يسّرت تشكل سوق عالمية، وأسهمت في نشوء الرأسمالية فيما بعد، فقد تمكن عدد من البحارة مثل "كولومبوس، كريستوفر، فاسكودي جاما" من الوصول إلى الهند، واكتشاف العالم الجديد الذي سمي القارة الأمريكية. وكان التجار الإسبان والبرتغال، الذين عانوا من الهيمنة والسيطرة التجارية التي كانت تفرضها الإمبراطورية العثمانية، قد مولوا الرحلات التي قام بها البحارة وأدت إلى هذه الاكتشافات، ثم اندفع التجار عبر أساطيل لا تتوقف إلى عرض البحار والمحيطات، وتمكن الأوروبيين من نهب خيرات المناطق المكتشفة من الذهب والفضة، وأقاموا فيها محطات تجارية، واستطاع المستوطنين البيض من فرض سيطرتهم على تلك البقاع الجغرافية بواسطة القوة والقمع للسكان المحليين، وعبر عمليات القرصنة وقتل الناس.

هكذا بدأ رأس المال التجاري الأوروبي بالسيطرة على أسواق العالم ابتداء من القرن السادس عشر الذي شهد ولادة نظام جديد في الإمبراطورية البريطانية، حيث تم تأسيس مشاريع ضخمة مثل "شركة الهند الشرقية، شركة هدسون باي، شركة البحر الجنوبي، بنك إنجلترا" وتم إنشاء العديد من الشركات المساهمة، وكان للتجار حصة مالية في الشركات الجديدة، وهكذا كانت الحركة التجارية البريطانية وانفتاحها على الأسواق الجديدة بمثابة المقدمة لظهور طبقة الرأسماليين التجاريين.

واستطاعت هذه الشركات الاحتكارية تكديس الأرباح الضخمة من خلال تجارتها، وما كونته من مراكز تجارية لم تستثني شيء من نشاطها، فعمدت على سرقة خيرات تلك البلدان، وتاجرت حتى بالبشر، الذين كان يتم اصطيادهم من أفريقيا وبيعهم لأصحاب مزارع السكر والتبغ في شمال وجنوب أمريكا وفي أوروبا. أرست تلك الشركات نمط الإنتاج الكولونيالي الذي حقق فوائض مالية للقارة الأوروبية. هذه العائدات المالية الضخمة تحققت عبر إسالة الدم والسرقة والنخاسة والخداع الذي مارسته الرأسمالية التجارية على الشعوب.

بعد الثورة الصناعية

ظهور الآلات، واختراع آلة الغزل، والتطور الهام في صناعة الأقمشة الذي ساهم فيه الإنجليزي "إدموند كارترايت" باختراعه للآلة الكهربائية لصناعة الخيوط. ثم تطورت صناعة الحديد، وتم في بداية القرن الثامن عشر البدء باستخراج المعادن بواسطة فحم الكوك بدلاً من الفحم النباتي الذي كان مستخدماً من قبل، وفي خمسينيات القرن التاسع عشر تم تطوير صناعة الصلب الذي أصبح في جوهر كافة الصناعات والأدوات والسفن والمباني. كذلك ساهم اختراع المحرك البخاري وتطويره في سبعينيات القرن الثامن عشر في اكتمال دائرة الثورة الصناعية.

الثورة الصناعية والتطور الكبير في المكننة أسهما في النمو الهائل الذي تحقق في الإنتاج الصناعي، فبدأ البحث خارج الحدود القومية للدول الرأسمالية، عن أسواق جديدة لهذه السلع الفائضة.

شهدت تلك المرحلة التفاوت الواضح غير المتكافئ بين الدول الرأسمالية الصناعية وبين المستعمرات، فبينما أسهمت الثورة الصناعية في التطور الهائل لوسائل الإنتاج، ومراكمة رأس المال في أوروبا، ظلت المستعمرات في أفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا على حالها من التخلف والفقر، ولم تتوفر فيها ظروف نشوء الصناعة والتطور الاقتصادي، نتيجة توفر فائض من السلع والبضائع الغربية الرخيصة التي نافست الإنتاج المحلي وقضت عليه، ثم تحولت هذه الدول إلى مُصدر للمواد الخام، ومستورد للمنتجات المصنعة غربياً. وبذلك تم دمج الدول التي كان اقتصادها بسيطاً لكنها مكتفية ذاتياً بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، فتحولت إلى سوق كبيرة للمنتجات الصناعية الغربية.

الاستعمار والامبريالية

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد العالم مركزية الإنتاج وبالتالي تركز رأس المال الاستعماري، وتغولت الشركات الصناعية الضخمة، فابتعلت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وانتهى عصر المنافسة، وظهرت قوة رأس المال المالي المستخدم في الصناعة، الذي تسيطر عليه البنوك التي تحالفت مع المؤسسات الصناعية الهائلة. ما حصل أنه بدأت هذه القوة المالية تبحث عن استثمارات لها خارج الحدود الوطنية تحقق لها عوائد أعلى من الداخل، بعد أن احتدم التنافس في الدول الرأسمالية الصناعية. فشهدت الفترة الممتدة من الربع الأخير للقرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الأولى، تنافساً محموماً بين الدول الصناعية الرأسمالية لتصدير رأس المال، فالتحقت المؤسسات الأمريكية والفرنسية والألمانية بالأسواق التنافسية وكسرت الاحتكار البريطاني.

وتميزت هذه المرحلة بالصراع والتنافس الطاحن بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية، بهدف اقتسام مناطق العالم. وأخذ رأس المال يبحث عن أماكن جديدة للاستثمار في إنتاج المواد الخام. هذا الصراع بين القوى الاستعمارية على المصالح وبهدف مراكمة رأس المال، والحفاظ على الاستثمارات الخارجية، أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.

الحرب العالمية الثانية

بروز ألمانيا النازية وسعيها للسيطرة على مزيد من الأسواق العالمية بقوة السلاح، يعكس في أحد جوانبه طبيعة الأزمة العميقة التي أصابت النظام العالمي الرأسمالي، والتناقض المتصاعد بين القوى الاحتكارية. وهو ما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية، التي أعقبها ظهور وتطور حركات التحرر الوطني في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، واستطاعت أن تُخرج الاستعمار وتحقق الاستقلال السياسي الشكلي، وانتهى عصر الاستعمار العسكري في المستعمرات وبدأ استعمار اقتصادي جديد، من خلال تحالف الامبريالية مع أصحاب رؤوس الأموال الزراعية والتجارية المحليين.

أدركت الرأسمالية العالمية التي تقدمت الولايات المتحدة لقيادتها بعد الحرب العالمية الثانية، أنها تحتاج إلى أنماطاً جديدة للاستغلال، وإعادة إنتاج علاقات الهيمنة، وفقاً للمتغيرات التي حدثت في العالم، هذه الأنماط هي ما جسّد مرحلة الامبريالية. اعتمدت الامبريالية الجديدة إلى إحداث علاقات خاصة مع مستعمراتها السابقة، واستخدمت المعونات الاقتصادية والقروض كسلاح لإعادة إنتاج السيطرة، ثم أقامت علاقات مع كبار الملاك والتجار والوجهاء، وكبار الموظفين والعسكريين الذين أصبحوا عبيداً للإمبريالية لاحقاً. ثم أقدمت الرأسمالية العالمية على استعمال القوة العسكرية لوقف نمو بعض البلدان النامية، والعمل على تفكيكها حتى تظل خاضعة، وقدمت المعونات البوليسية للأنظمة الديكتاتورية لقمع المعارضين لها، وأقامت قواعد عسكرية في بعض تلك البلدان. في المحصلة بقيت هذه الدول أسواقاً استهلاكية للبضائع الغربية، وقطاعاً مربحاً للاستثمارات، وتعززت تبعية الأنظمة الحاكمة للهيمنة الامبريالية.

العولمة الرأسمالية

شهد العالم مرحلة جديدة بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، من أهم معالمها التركز الشديد في رأس المال المالي، وزيادة هائلة في اتساع نشاط الشركات عابرة للقارات متعددة الجنسيات، وانهيار جدار برلين، وسقوط المعسكر الاشتراكي في بداية التسعينيات، وتداعي منظومة التحرر القومي، والانسحال المريع للبنية الأيديولوجية والفكرية للأحزاب الاشتراكية والليبرالية، والتطور الهائل الذي حققته تكنولوجيا الاتصالات والثورة الرقمية. هذه المتغيرات أوجدت واقعاً تاريخياً أخلّ بتوازنات المصالح والقوة التي كانت سائدة طوال الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأدى إلى مرحلة أحادية القطبية أو العولمة، التي مكّنت الولايات المتحدة من تسيّد المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي العالمي، على اعتبارها الطرف المنتصر الذي يمتلك الحق في تحديد نمط العلاقات الدولية وفق مفاهيم الليبرالية الجديدة.

تحررت الرأسمالية العالمية من قيود الانتشار والتوسع بسبب التطور النوعي الضخم في التقنيات وثورة المعلومات، وبسبب قيام التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة، فكان لابد من أن يترافق مع هذه المتغيرات الهامة، تطوير النظم المعرفية والسياسية والاقتصادية، التي من شأنها تعزيز سيطرة هذا النظام العالمي الجديد أحادي القطبية.

عالم جديد تفرض فيه قوة وحيدة شروطها ونمطها ورؤيتها على الجميع باسم العولمة، التي لم يتصدى لها أحد، خاصة في الدول النامية المنهزمة التابعة، التي أطاعت التوجه الجديد حفاظاً على مصالحها، واستجابت للعولمة عبر تحرير التجارة، وإعادة هيكلة الاقتصاد، وتبني نظام الخصخصة، والتكيف مع المتغيرات.

هذه العولمة ظهرت نتيجة ظروف دولية وإقليمية، وتطوراً في السيرورة التاريخية. إن العولمة هي بمثابة امتداد تاريخي وسياسي واقتصادي لتطور الرأسمالية التي لم تكف عن النمو منذ كانت جنيناً في القرن الخامس عشر، ثم ولدت في القرن الثامن عشر، ثم تحولت الرأسمالية إلى شكلها الامبريالي في نهاية القرن التاسع عشر.

لقد بلغ النظام الرأسمالي العالمي الامبريالي في مرحلة العولمة طوراً، يسعى فيه باستخدام القوة، لإعادة شعوب العالم إلى القواعد التي كانت تحكم الفترة الأولى لنشوء الرأسمالية، القواعد التدميرية التي كانت قائمة على أساس المنافسة الموحشة، التي تضمن سيطرة الأقوى على مقدرات الدول ومصير الشعوب. فالهيمنة هي التي تشكل محور نشاط المراكز الرأسمالية بثوب العولمة في الفترة المعاصرة. ويتم ضمان استمرار السيطرة واتساعها إما عبر استعمال القوة العسكرية، أو من خلال الأنظمة التابعة والخاضعة لنفوذ الغرب.

هذه هي طبيعة الرأسمالية في طور ما بعد الامبريالية. فما تحاول خلقه الامبريالية ليس نظاماً جديداً للكون، بل إن ما يجري هو امتداد طبيعي وتواصل تاريخي لتطور الرأسمالية التي تقوم بالأساس على التوسع والانتشار ومراكمة رأس المال، وتستفيد الرأسمالية الامبريالية- بثوبها الأمريكي السافر بشكل خاص، والأوروبي المحتشم بدرجة أقل- من المتغيرات الدولية لتفرض مزيداً من استبدادها المتوحش على الدول الأخرى، والضحايا الرئيسيين هنا هم الدول النامية وشعوبها.

قوم لا يحتاجون الديمقراطية

الكارثة الكبرى تراها جلية واضحة في العالم العربي، الذي لا يزال يصر أن يكون منطقة خالية من الديمقراطية ومن العولمة، حيث تبحث معظم الأنظمة العربية عن المبررات لتفسير غياب الديمقراطية وعدم حاجتهم إليها.

في مفارقة مبكية يتذرع بعض العرب بالصين التي حققت نمواً في غياب نظام ديمقراطي، نعم هذا صحيح لأن الصين طبقت سياسة رأسمالية الدولة بدلاً عن رأسمالية السوق، وهي الاستثناء الوحيد.

 لكن العرب لم يتبعوا لا النظام الصيني، ولا النظام الديمقراطي، ولا الاشتراكي، ولا الليبرالي، ولا الوسطي، ولا نظام السوق الحر. لم يتبعوا أي نظام ولا أي نظرية، وليست لديهم أية خطط استراتيجية لا اقتصادية ولا سياسية ولا أمنية ولا قومية. كل ما تفعله معظم الأنظمة العربية هو مواصلة السياسات الاستبدادية لإخضاع شعوبها، واستمرار السياسات الاقتصادية الفاشلة، التي لم تثمر إلا خراباً وخواء، ولم تستطع معظم الأنظمة العربية تحقيق نتائج واضحة على صعيد التنمية المستدامة. وهذا ليس موقفاً نظرياً، بل معطيات تستند إلى الأرقام التي لا يمكن نفيها.

حسب تقارير منظمة العمل الدولية في جنيف، التي صدرت في النصف الأول من العام 2018، فإن نسبة العاطلين عن العمل من الشباب العرب بلغت 30 في المئة، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف المتوسط العام لبطالة الشباب في العالم. أما المعدل العام للبطالة العربية فهو ضعف المعدل العام العالمي.

 وفيما يتعلق بحجم الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية في العام 2017 فقد بلغ حسب تقدير صندوق النقد الدولي 2.65 تريليون دولار، وهو ما يمثل 2.5 في المئة من الناتج العالمي، لكن أكثر من نصف هذا الناتج يأتي من دول الخليج نتيجة بيع النفط. فيما على سبيل المقاربة بلغ حجم الناتج المحلي الأمريكي 20.4 تريليون دولار، وهو ما يمثل حوالي ربع الناتج العالمي. ومفيد أن نذكر هنا أن عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية قد بلغ في العام 2017 حوالي 327 مليون مواطن. فيما يبلغ عدد السكان العرب 407 مليون مواطن.

فيما يتعلق بالأمية فقد أكدت تقارير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألسكو" في العام 2018 أن معدل الأمية في الدول العربية لا يزال مرتفعاً مقارنة مع دول العالم النامي، حيث بلغ 26 في المئة، يصل عند الإناث حوالي 50 في المئة، وترتفع هذه النسبة عند الإناث في بعض دول المنطقة إلى أكثر من 60 في المئة. فيما يبلغ المعدل العالمي 13.6.

وحسب إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فاو" العام 2017 فإن 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية، وأن نحو مائة مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر. إن أكثر من 13.6 في المئة من السكان العرب لا يجدون ما يأكلونه.

على الأبحاث العلمية تصرف الدول العربية مجتمعة معدل 0.4 في المئة من ناتجها المحلي على البحوث، فيما تصرف إسرائيل 2.6 في المئة من ناتجها على الأبحاث غير العسكرية. بينما تصل النسبة في الدول الغربية إلى 4-5 في المئة. ورغم أن العرب يشكلون حوالي من 5 في المئة من سكان العالم، إلا أن مساهمتهم في نشر الأبحاث العلمية لا يتجاوز 0.02 في المئة من النشر العالمي.

نكوص حضاري

يبدو المشهد وكأن الولايات المتحدة وبعض الغرب الأوروبي مقبلون على مرحلة ما بعد الديمقراطية الليبرالية، أو ما بعد العولمة والحداثة التي سادت المجتمع الغربي طوال العقود الماضية. مرحلة تنتشر فيها الشعبوية والاتجاهات غير الليبرالية، ويعلو صوت الأفكار اليمينية العنصرية المتشددة.

هل هذا الاستنتاج صحيحاً، أم متسرعاً؟ هل الأفكار اليمينية أصبحت تشكل القاعدة، أم إنها ما زالت استثناءات رغم حجمها وخطورتها؟  في الواقع أنه على الرغم من كون الديمقراطية لا زالت تنمو في العديد من الأماكن في هذا الكوكب خاصة في القارة الافريقية وأمريكا الجنوبية، وفي دول جنوب شرق آسيا، إلا أن الاستبداد ما زال يبسط مخالبه على أعناق الشعوب في أماكن عديدة.

هناك القليل من الديكتاتوريات في العالم تحولت إلى نظام انتخابي ديمقراطي خلال العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة، حيث الآن هناك 69 دولة غير ديمقراطية من أصل 192 دولة.

إن السياسات الحمائية الانعزالية التي تحاول إدارة الرئيس الأمريكي "ترامب" اتباعها لحماية وظائف الأمريكيين، لا تبدو أنها إجراءات واقعية بقدر ما هي خطاب ديماغوجي، إذ أن العولمة لا تعتمد فقط حرية التجارة، بل أيضاً -وهذا الأهم- على التكنولوجيا الحديثة التي مكنت شركة "أوبر" أن تصبح أكبر شركات التاكسي في العالم، رغم أنها لا تمتلك سيارة واحدة، وجعلت من شركة "أمازون" أكبر شركة للتسوق، وهي لا تمتلك متجراً واحداً.

هل نحن على أبواب مرحلة ما بعد العولمة، أم دخل العالم مرحلة من الفوضى عديمة الملامح، أم أن الأمر لا يعدو كونه إننا ما زلنا نتأقلم مع العولمة وما أفضت إليه من نتائج تظهر في جانب منها على أنها مبشرة لخدمة الإنسان المعاصر، وفي جانبها الآخر تظهر أنها مدمرة في قدرتها على النهب والقتل والإخضاع، وجعل الإنسان المعاصر يعود إلى فطرته البدائية الموحشة، في إشارة بائنة للنكوص الحضاري.

بقلم/ حسن العاصي