العرب بغالبيتهم الساحقة، وأنا واحد منهم، يقفون إلى جانب الرئيس الفنزويلي الحالي نيكولاس مادورو، ومستعدون للدفاع عنه، ويعتبرون أن كل ما يجري في فنزويلا مؤامرة أمريكية لم تبدأ اليوم، بل من اليوم الأول الذي انتخب فيه الاشتراكي هوغو شافيز عام 1998 وجلس رسميا على كرسي الرئاسة في فبراير 1999 والذي غير سياسة فنزويلا على كل المستويات، خاصة إدانته القوية لغزو الولايات المتحدة للعراق، وانتصاره للحق الفلسطيني ضد الباطل الصهيوأمريكي.
لا أحد ينسى موقفه الشجاع عندما طرد السفير الإسرائيلي، بعد حرب جنوب لبنان 2006، ثم عاد وطرده مرة ثانية بعد الحرب على غزة 2008-2009 واعترف رسميا بدولة فلسطين وسمح للفلسطينيين أن يدخلوا فنزويلا بدون تأشيرة، وقام بتقديم المساعدات العينية والسياسية لكل فقراء أمريكا اللاتينية، خاصة كوبا. كما تابع خليفته نيكولاس مادورو منذ عام 2013 السياسة نفسها، بل أكثر تطرفا، حيث شارك في القمة الإسلامية في إسطنبول حول اعتراف إدارة دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وألقى كلمة قوية في المؤتمر قال فيها: «إلى متى هذا الصمت وأنت ترون إخوتكم الفلسطينيين يقتلون؟ إلى متى تبقون نائمين أيها العرب؟ متى تستيقظون وتدافعون عن إخوتكم الفلسطينيين؟».
انتخب شافيز في الوقت الذي كان هناك صعود لليسار في أمريكا اللاتينية في دول مثل، تشيلي والبرازيل والأرجنتين وبوليفيا والسلفادور ونيكاراغو والمكسيك. فكان الأمر طبيعيا أن تنتخب شعوب أمريكا اللاتينية قيادات وطنية تبتعد عن السياسات الأمريكية، التي ما فتئت تتدخل في شؤون دول القارة، مثلما حدث في نيكاراغوا والسلفادور وبنما، ناهيك عن ذكريات القارة في إسقاط القائد المنتخب ديمقراطيا في تشيلي سلفادور ألليندي عام 1973، واستبداله بمجرم الحرب، فينست بينوشيه لمدة 17 عاما، دمر البلاد والعباد. لكن الأمور تغيرت كثيرا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وعادت أمريكا اللاتينية بمجملها تتجه نحو اليمين، بدعم أو تهديد أو إغراء من الولايات المتحدة، وانتهت حركات المقاومة جميعها وكان آخرها في كولومبيا وقبلها البيرو وغواتيمالا ونيكاراغوا والسلفادور، واتجهت جميع دول أمريكا اللاتينية نحو الانتخابات الحرة والديمقراطية والدورية والمستقرة ما عدا كوبا. أما بالنسبة لفنزويلا فحديثها يطول، ولذلك لا بد أن أضع الأمور في سياقها السليم كي نفهم ما يجري في فنزويلا.
كثير من الكتاب العرب يحكمون على أي قائد بناء على سياسته الخارجية وموقفه من الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل، بدون الانتباه أو إعطاء السياسة الداخلية أو مدى رضى الشعب الذي يحكم باسمه أي وزن أو قيمة. إن الذي يبحث عن شعبية خارج حدود بلاده ولا يجدها داخل وطنه وفي قلوب شعبه آيل إلى زوال أو اضطرابات قد تطيح به من أعداء الداخل أو الخارج أو الاثنين معا. وهذا خطأ أرتكبه كثير من قيادات العرب، الذين كانوا يعتقدون أن الشرعية تأتي من رضى القوى الخارجية فحسب. وقد يقع هذا الحاكم المطلق بأخطاء قد تدمر البلاد وتبدد مصادرها وثرواتها وتدخلها في مشاكل ونزاعات وحروب واضطرابات تنعكس ظلما وقهرا وفقرا على أبناء البلاد، ما يسهل على الأعداء الخارجيين النفاذ من داخل الشقوق والحفر ليدمروا مقدرات البلاد وثرواتها، حتى لو بقيت القيادة. ولو ضربنا مثلا على ذلك بالحكم في كوريا الشمالية لوجدنا أن ما ذهبنا إليه ينطبق على كيم جونغ أون، الذي لا يعترف أصلا بإسرائيل، وهددها «بعقاب لا يرحم» عندما وصف ليبرمان الرئيس الكوري بأنه حاكم مجنون ومتطرف. فهل يكفي هذا الموقف حتى نصفق لهذا القائد ونقف معه ونهلل لمواقفه ونعتبره مثالا يحتذى، بينما يتضور 70% من شعبه جوعا، ولا يتورع في قتل كل من يعارضه ولو ضمنيا، مثلما فعل بأخيه وعمه الذي سلط عليه كلابا متوحشة تنهشه حيا. وحتى لا أبعد كثيرا فإن الأخطاء التي ارتكبها نظام صدام حسين في بلد غني كالعراق، سهّل دخول الغزو الأمريكي، خاصة بعد شنه حربين مرة على إيران، استمرت ثماني سنوات، ثم قيامه باحتلال الكويت عام 1990، التي كانت المصيدة التي نصبت له لتدمير العراق وتثوير الغول الطائفي فيها، الذي ترك عراقا ممزقا متناحرا وتابعا.
ولنأتِ إلى فنزويلا لنحاول أن نفهم ما يجري هناك، وكيف يمكن لمادورو أن يتجنب حربا أهلية أو غزوا أمريكيا ـ كولومبيا، أو انقلابا عسكريا، خاصة أن التصعيد مستمر، بعد أن نصب الشاب خوان غوايدو، رئيس البرلمان، نفسه رئيسا مؤقتا لغاية انتخابات رئاسية، وتوالت الاعترافات به بدءا بإدارة ترامب.
فنزويلا، البلد الأغنى في كل أمريكا اللاتينية بمساحة مصر وثلث عدد سكانها، كانت من أوائل من أطلقوا ثورة ضد الاستعمار الإسباني وحصلت على استقلالها عام 1811 كجزء من كولومبيا، ثم استقلت وانفصلت عنها عام 1830 على إثر الثورة العظيمة التي قادها سيمون بوليفار وحرر على أثرها فنزويلا وكولومبيا والبيرو وإكوادور وبوليفيا وبنما، فأطلق عليه لقب المحرر وجورج واشنطن أمريكا اللاتينية. فقد منحتها الطبيعة كل ما تحتاجه البلاد من مصادر طبيعية وبحور وجزر وتمتد بين جبال الأنديز شمالا إلى حوض الأماوزن الذي تعيش فيها شعوب أصلية لغاية اليوم، مرورا بسهول يانوس الغنية. اكتشف فيها البترول والغاز في أوائل القرن العشرين ولديها احتياطي من النفط يعد من أكبر الاحتياطيات في العالم ويضاهي احتياط النفط في السعودية، وهو ما رفع مداخيل الدولة لتصبح الأغنى بين دول القارة الأمريكية والأكثر تقدما ونهضة وعمرانا وحيوية، فما الذي جرى حتى وصلت البلاد حافة الانهيار الاقتصادي؟
منذ عام 1958 دخلت فنزويلا عصر الاستقرار الديمقراطي، إلا أنها عادت وشهدت اضطرابات واسعة بعد انهيار أسعار النفط عام 1988، حيث شهدت البلاد انخفاضا حادا في قيمة العملة، وزادت نسبة التضخم بنحو 100%، وجمدت المشاريع وبدأت رؤوس الأموال تهرب من البلاد. وقام الجيش عام 1992 بمحاولة انقلابية فاشلة قادها شاب اسمه هوغو شافيز وضع في السجن بعدها، وطرد الرئيس كالدرون من منصبه عام 1993 بتهمة الفساد، وانتشر التذمر والجريمة والفساد في السنوات اللاحقة إلى أن انتخب الشاب شافيز عام 1998 لمدة أربع سنوات، كما ينص الدستور تبدأ في فبراير 1999. إلا أن شافيز أعلن ثورة بوليفارية جديدة، وجمع البرلمان في السنة نفسها، واتخذ إجراءات حادة وقطعية عن سنوات الماضي، وغير الدستور لتكون فترة الرئاسة 6 سنوات، وبدأ يؤمم الشركات الأجنبية ويوزع النفط الفنزويلي على فقراء أمريكا اللاتينية مجانا، وفتح معامل تكرير في كوبا، وقام بتسليح ثوار كولومبيا. وبما أن رأس المال جبان، هربت الشركات بأموالها وتعثرت الحياة الاقتصادية، وبدأ البوليفر ينهار شيئا فشيئا وأسعار البضائع ترتفع بشكل خيالي، هذا إن وجدت. واستمر الحال وبطريقة أسوأ في عهد مادورو، حيث وصل التضخم عام 2016 نسبة 720% وتقلص حجم الاقتصاد بنسبة 10% بمستوى الاقتصاد السوري. لقد اختفت المواد الغذائية من الأسواق لدرجة أن ثلاثة أشخاص من بين أربعة فقدوا 19 رطلا من أوزانهم، وتحول نحو 15% من السكان إلى فقر مدقع يبحثون عن الطعام في أكوام القمامة، فبدأ الناس يهربون من البلاد، حيث وصل عدد المهاجرين نحو ثلاثة ملايين، وأصبحت كراكاس من أخطر مدن العالم في مستوى الجريمة.
لقد اتخذ شافيز خلال سنوات حكمة التي امتدت 15 سنة مجموعة قرارات حرضت قطاعات رجال الأعمال ضده، وهم عصب اقتصاد البلاد، وأثارت تساؤلات كبيرة مثل إلغائه مجلس الشيوخ والاكتفاء بنظام برلماني واحد، وتغييره لموعد الانتخابات وعدائه للأحزاب والطبقة السياسة التي أطلق على رجالاتها «أعداء الشعب»، فانطلقت مظاهرات عارمة عام 2002 توجت بمحاولة انقلاب فاشلة في العام نفسه مدعومة من الولايات المتحدة، التي بدأت تدس أنفها من خلال التذمر الشعبي العام، الذي بدأ ينتشر ويواجه أحيانا بإطلاق النار وسقوط القتلى في الشوارع، ما أوصل البلاد تدريجيا إلى وضع اقتصادي يكاد ينهار تماما، خاصة بعد هروب الشركات الأمريكية وفرض عقوبات على نظام شافيز- مادورو وهو ما فاقم الوضع إلى حد الانفجار.
إن وضع اللوم على مسألة التدخل الخارجي والمؤامرة الإمبريالية فقط لا يعطي إلا نصف الجواب ونصف الحقيقة. فبلد غني كفنزويلا يذكرنا بليبيا التي كان بإمكان العقيد أن يجعل كل ليبي مليونيرا، كما قال له الرئيس السوفييتي بريجنيف عندما ذهب ليشتري سلاحا متطورا. كل ما نتمناه لفنزويلا هو الخروج سليمة من الأزمة القاتلة التي تعيشها أمام هذا التجاذب الدولي، وأن يتصرف مادورو الذي ما زالت غالبية شعوب العالم تؤيده. لكن ما يحتاجه مادورو الآن هو تأييد غالبية شعبه والتصالح معهم وفتح صفحة حوار جادة لإصلاح الأوضاع التي تنذر بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر إذا بقيت الشقوق مفتوحة ليتسرب منها أعداء الخارج ويشبكوا مع أعداء الداخل والنتيجة استنساخ للتجربة الليبية أو السورية لا قدر الله.
عبد الحميد صيام
محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي