"الاعتراف خيانة" شعار رفعته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ أكثر من ثلاثة عقود، فأدرجته ضمن أدبياتها ونشراتها الداخلية، ورددته قياداتها مراراً، وسمعناه من رفاقها وأعضائها كثيراً داخل السجون وخارجها.
ولم تكتفِ الجبهة برفع الشعار، بل ترجمته واقعاً عملياً في أقبية التحقيق، ولقد شهدنا في السجون إجراءات عقابية صارمة، تقع بحق العديد من القيادات الجبهاوية التي أخلت بهذا الشعار، بل إن بعضهم كان من ذوي المراتب العليا في التنظيم والحزب. ومع الوقت تحول هذا الشعار إلى ممارسة مستمرة، واساسي ثقافي راسخ.
هكذا أسست الجبهة الشعبية لفلسفة المواجهة خلف القضبان، فعززت من ثقافة الصمود في أقبية التحقيق. وإنه لمن الحق أن نعترف للجبهة بذلك. ومن حقها أن تفخر بما أسسته، وبما قدمه رفاقها من نماذج تُحتذى.
هكذا أضحى الصمود في أقبية التحقيق قاعدة لدى رفاق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. حيث تم اعتبار الاعتراف "استثناء، غير مبرر وغير مقبول. وهكذا كان لابد أن تدفع الجبهة ثمن هذا الشعار والتطبيق، فيقع الشهداء في صفوفها، خلال تعذيبهم في أقبية التحقيق. وكان من أبرز هؤلاء الشهيد الأسير "مصطفى العكاوي".
"مصطفى عبد الله العكاوي، ابن مدينة القدس المحتلة، واحد من الذين انتموا للثـورة منذ نعومة أظافره، فتتلمذ على أيدي عمالقة الثورة، ودرس في مدرسة "الحكيم" وتخرج من جامعات السجون، فأحسن التعلم وأتقن الممارسة، وأجاد لغة المواجهة في غياهب السجون وزنازينها المعتمة، وانتصر في أصعب اللحظات على السجان.
صمد مصطفى ولم يعترف، رغم كل ما مورس بحقه من صنوف التعذيب، وفضّل الاستشهاد، على أن يعترف ويبقى على قيد الحياة. فاستشهد وبقيّ حيا بين رفاقه في الجبهة، وفي قلوب أبناء شعبه. فخلد في ضمير فلسطين والرفاق، إذ جسّد مقولة المناضل الأممي التشيكي "يوليوس فوتشيك": اذا كان ولا بد من التضحية لأجل الوطن، فلنضح بالحياة وليس الشرف.
ولد الشهيد "مصطفى العكاوي" في القدس، عام 1957، متزوج ولديه ابن اسمه "عبد الله". واعتقل من قبل عدة مرات. من منزله في ضاحية البريد شمال مدينة القدس. وفي الثاني والعشرين من كانون ثاني/يناير عام 1992 اعتقل مصطفى المرة الأخيرة، في إطار حملة هي الأشرس والأوسع لأعضاء وقيادات الجبهة الشعبية.
كان مصطفى قد تسلح. إلى جانب شعوره بعدالة قضيته. بإلمام كامل بأساليب التحقيق، فسّخر كل ذلك في معركته، وتمكن بذلك من تسطير ملحمته الخاصة، وملحمة الشعب الفلسطيني عامة، ملحمة الانتصار، فنال الشهادة في زنازين سجن الخليل، في الرابع من شباط/فبراير من العام ذاته. فصان شرفه وشرف الجبهة الشعبية وشرف فلسطين.
وإنني في هذه المناسبة لأجدد دعوتي لكافة الفصائل الفلسطينية، بإعادة النظر في ثقافتها وبرامجها التعبوية، للاستفادة من تجارب الصمود السابقة، بما يؤسس لمنظومة متكاملة تجمع ما بين ثقافة النضال والاستشهاد والاعتقال في آن واحد، مع التركيز على أهمية الصمود في أقبية التحقيق في حال الاعتقال، لما لذلك من ضرورة وطنية ملحة تكفل الحفاظ على المعلومات التي يمتلكها المناضل وعدم البوح بأسرار المقاومة وفصائلها ورموزها.
لاشك بان الصمود ممكن، كما أن احتمالات الانتصار متوفرة، خصوصاً مع هذه المئات من التجارب الفردية والجماعية، التي يمكن أن تُسجل هنا، وتشكل بمجموعها نماذج رائعة. فالمناضل المصقول قبل خوض تجربة التحقيق، يمكنه الصمود في أقبية التحقيق.
تحية اجلال وإكبار للشهيد الأسير مصطفى العكاوي في ذكرى استشهاده.
وتمر قوافل الأبطال إما إلى القبور و إما إلى السجون
بقلم/ عبد الناصر فروانة