تُقدر المسافة الجغرافية ما بين لاهاي وغزة، بأكثر من أربعة آلاف كيلو متر. أما المسافة بين الجرائم الإسرائيلية في غزة وتطبيق القانون الدولي لتحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين ومكافحة الافلات من العقاب، تكاد تكون كالمسافة الفاصلة بين الأرض والسماء. فيما المسافة الوجدانية التي تفصل "اسماعيل" المقيم في هولندا عن غزة هي صفر، وأن ما يربطه بوطنه الكبير وشهداء أسرته الأبرياء، أدخلته محاكم القضاء الهولندي، وقلّص المسافة ما بين الجريمة والعقاب، وعزز القناعة بأن الملاحقة القانونية ممكنة، وتحقيق العدالة الدولية وانصاف الضحايا هدف مشروع.
وفي سابقة، لربما تكون هي الأولى على الساحة الهولندية بشكل خاص والأوروبية بشكل عام، وبمبادرة شخصية وجهود فردية، دخل المواطن الفلسطيني "إسماعيل زيادة"، معركة قضائية في المحاكم الهولندية، ضد رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي السابق "بيني غانتس"، والجنرال "أمير إيشل" قائد سلاح الجو، على خلفية مسؤوليتهما عن قصف جوي لمنزل عائلته المكون من ثلاثة طوابق وتدميره بالكامل في مخيم البريج وسط قطاع غزة، إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، ما أسفر عن استشهاد (6) من أفراد العائلة، بينهم أمه وثلاثة من أشقائه وزوجة أحد أشقائه، وأحد أبناءهم (12 سنة)، إضافة لصديق كان في زيارة للعائلة لحظة القصف الذي وقع بتاريخ 20 تموز/يوليو 2014.
يدرك "اسماعيل" تلك المسافة التي تفصله عن تحقيق العدالة المنشودة، والتي من الممكن أن لا تتحقق. ويعلم أن معركته هذه قد تمتد زمنياً وتستغرق سنوات طويلة، ويُقدّر أن خوضها سيرهقه ويستنزف جهده ويحتاج الى أكثر من خمسين ألف يورو لمتابعتها من قبل محامين متخصصين هناك. لكنه يتسلح بإرادة وعزيمة قوية ويحظى بدعم أصدقاء له، ويتمسك ببصيص الأمل، ولو بانتصار معنوي.
إن القانون الهولندي يُتيح رفع دعاوى من قبل المواطنين ضد متهمين بارتكاب جرائم، في حال لم يستطع المتضررون من هذه الجرائم الحصول على العدالة في بلد المتهمين. والمواطن زيادة، يحمل الجنسية الهولندية ويقيم في مدينة "لاهاي" عاصمة المحاكم والمنظمات الدولية، وقرر بمبادرة شخصية، ونيابة عن جميع ضحايا الجرائم الإسرائيلية بحق فلسطينيين، أن يرفع قضية أمام القضاء الهولندي، وهذه سابقة تحمل رسائل عديدة ومدلولات كثيرة. وان البدء بهذه الخطوة واثارة موضوعها أمام الرأي العام، سيشكل حافزا لكثير من الضحايا الفلسطينيين، وقد يُشجع آخرين على أن يحذوا حذوه في ملاحقة قادة الاحتلال عبر المحاكم الأوروبية. هذا وستعقد المحكمة الهولندية أولى جلساتها في شهر آذار/مارس القادم، للنظر في هذه القضية.
وحسبما قالت لي العائلة: فإن هذه القضية تحتاج مبالغ مالية كبيرة، وأن العائلة ستدفعها من أموالها الشخصية، ومن مساهمات أصدقاء لها، ومؤيدين للقضية، وأن هناك جهودًا تُبذل من العائلة والأصدقاء لجمع (50) ألف يورو سيتم تحويلها مباشرة إلى مكتب المحاماة المُكلف بمتابعة القضية.
وعن آثار جريمة القصف وهدم البيوت تقول احدى الدراسات الصادرة عن برنامج غزة للصحة النفسية: "ان خسارة منزل الفرد تعني أكثر من كارثة حادة بالنسبة للفلسطينيين لأنه يستحضر ذكريات التجارب الصادمة المرتبطة بكونه لاجئاً، وتُعتبر حرب 1948 وخسارة الوطن محورًا رئيسيًا للخوف وانعدام الأمن الذي يؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية للفلسطينيين. إن عمليات الهدم تعني أن العائلات تضطر للنزوح والعيش في خيام أو في منازل الأقارب، والذي يتسبب بمشاكل حياتية واجتماعية عديدة، حيث ويُعتبر المنزل ومزاً ومكاناً للدعم العائلي والشعور بالأمن والطمأنينة. إن تدمير البيوت الفلسطينية يعني العمل على تدمير عوامل الوقاية والحماية اللازمة للسلامة النفسية للفلسطينيين للتغلب على المشاكل الحياتية التي يمروا بها نتيجة الاحتلال والحصار".
لهذا ونحن نتحدث اليوم عن الجرائم الإسرائيلية في هدم البيوت، وسقوط الشهداء الأبرياء وفقدان الأحبة الأعزاء، فإن مساءلة مرتكبي الجريمة والتحرك لمحاسبتهم، أمر مهم من ناحية سيكولوجية، وخاصة إذا كانت المبادرة من الضحايا وذويهم أنفسهم، لأن ذلك يساعدهم في التغلب على الشعور بالعجز تجاه المعتدي، وكذلك التغلب على حالة التردد والخوف التي يهدف المعتدي إلى تحقيقها لدى الضحايا وذويهم والمجتمع الفلسطيني.
ومن خلال المبادرة يستعيد الضحايا تقديرهم واحترامهم لذواتهم، وكذلك القدرة على الفعل، وهذا يساعد في عملية الاستشفاء النفسي للتداعيات السلبية الناتجة عن ما تعرضوا له من أذى، كما يقول خبراء علم النفس.
لذا فان مبادرة المواطن اسماعيل زيادة، واقتحامه للقضاء الهولندي، تشكل سابقة، حيث لم يسبق رفع قضايا العدوان على غزة عام 2014 عبر المحاكم الأوروبية، كما وتفضح جرائم الاحتلال على الساحة الأوروبية، وستشكل حافزا لكثير من الضحايا الفلسطينيين. وستقلص حجم الجريمة، فالمساءلة والمحاسبة تشكل رادعا للمعتدي وتدفعه للتردد والتفكير قبل أن يقوم بتكرار جرائمه واعتداءاته بحق الأبرياء الفلسطينيين. كما وتشكل رادعا للآخرين، فتُولّد لديهم الشعور بالخوف من الملاحقة وبأنهم غير محصنين من العقاب، بعكس ثقافة: "الافلات من العقاب"، والتي تحاول الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تعزيزها لديهم.
لقد اطلعت على قضية "زيادة"، وقرأت ما نشر عنها عبر الصحافة، وتواصلت مع العائلة وأقارب الضحايا، واستمعت لأحاديث كثيرة. فتفاجأت أن القضية قد استحوذت على اهتمام دولي وحظيت بتغطية كبيرة في وسائل الاعلام الإسرائيلية والأوروبية، فيما هي شبه غائبة عن الساحة الفلسطينية والعربية. وان حضورها على أجندة منظمات حقوق الإنسان المحلية وسلم اهتماماتها يكاد يكون غائبا !. آمل أن أكون مخطئا في متابعتي.
وفي الختام لابد وأن نحيي "زيادة" على ما امتلكه من جرأة، وما عبّر عنه في خطوته، وأن نشجع مبادرته الشخصية ونسانده في مسيرته هذه. فهو سجل نجاحا حين حمل القضية ودخل بمفرده ساحة القضاء الهولندي ليخوض معتركا قضائيا ومعركة قانونية ضد جنرالين اسرائيليين. ومن الممكن أن يحقق نجاحات لاحقة، وقد ينتصر.
لهذا فإن المطلوب من الكل الفلسطيني وعلى اختلاف مواقعهم، وبشكل خاص من منظمات حقوق الإنسان المحلية ذات الخبرات والعلاقات الدولية، احتضان القضية والوقوف بجانب "زيادة" في معركته القانونية. وأن التجربة القضائية هذه من الممكن تكرارها عبر القضاء الهولندي، أو تقديم مثيلاتها في دول أوروبية أخرى، طالما أن هذا ممكنا.
كما وان ما يقدمه "زيادة" يشكل حافزاً لضحايا الاعتقالات وساحات التعذيب وزرع الأمراض في السجون الإسرائيلية، ذكورا واناثا، صغاراً وكباراً، ولذويهم أيضا، في مساءلة قادة الاحتلال الإسرائيلي ومسؤولي ادارة السجون وملاحقتهم عبر القضاء المدني أو الجنائي في الدول الأوروبية، على ما اقترفوه من انتهاكات جسيمة وجرائم فظيعة بحق الأسرى والمعتقلين. وصولا الى تحقيق العدالة الدولية للضحايا الفلسطينيين.
بقلم/ عبد الناصر فروانة